في كتاب «أرق الصحراء»، يلوح لي الشاعر العُماني سيف الرحبي كأنه لا ينام. هو دائماً مفتوح الجفنين، على اتساع الصحراء وعلى اتساع البحر، المتجاورين بل المتواصلين في المكان الذي ولد فيه سيف، ويلوي نحوه عنقه، من حيث توزعته المدن والأماكن، مثل ظبي لا تدجنه المدن ولا الحدائق... قرية سرور، سمائل، سلطنة عُمان. وفي اعتقادي أنّ من يشمّ شميم الصحراء، تدخل إلى مسامّ روحه، رياحُها وأطيافُها، ومتعةُ اللانهاية، وأرقُ الزمان... وفي هذا الجفاف العظيم، يغدو للمحيط الموصول بالصحراء، في مسقط، أوزانه التي لا يلتقطها إلا ابن المكان... فكيف لا يأرق سيف الرحبي حين يسجّل يومياته ويجملها في كتاب؟ «أرق الصحراء» يوميات يظهر لي أنها لا تبدأ ولا تنتهي، لأنها بالفعل شبيهة بأوراق تتساقط من شجرة عجيبة، مفروشة على الحدّ بين الماء والرمل، كلما هزّها صاحبها أسقطت أوراقها، تعود الحياة فتُنْبِتَ بدلاً عنها أوراقاً جديدة، لكنْ بنكهة هي مزيج بين اليومي والأبدي، الأخضر واليابس، العابر والراسخ... النافل والجوهري... وبين الصحو والغيم، ورقصة الشمس على شاطئ المحيط الهندي، وامتصاص تلال عُمان، ورمال الصحراء، لحزمة الأشعة.. وما يسرده الكاتب بين اثنين وأحد، من أيام، يسرده تحت أسماء أيام متشابهة، شبيهة بنقلات الغراب على شاطئ مسقط، حيث يظهر مزيج خاص من ضجر وكآبة... من رتابة يكسرها الشاعر بالتأمّل، ومن أرق هو قلق النفس في تكوينها الأصلي، في المكان القلب، في العالم القلق... فلو وضعنا مكان الثلاثاء الأربعاء ومكان الأربعاء الخميس... وهلم جرا، لما تغيّر طقس الأيام في مذكرات سيف الرحبي... (ماخلا تلك المرتبطة بحادث سياسي أو اجتماعي بعينه، أو بمدينة سافر إليها الشاعر بعينها، مثل القاهرةوبيروت...). ولست أدري ما الذي جعل سيف الرحبي يجمع يومياته على هذه الصورة، في هذا الكتاب بالذات، ويصورها الآن، في العام 2005، من بيروت؟ كان في الإمكان إصدارها قبل اليوم، كما في الإمكان انتظار أوراق أخرى تسقط من شجرة الأيام، يتأمّل فيها سيف، كما يتأمل فلول قتلاه المرمية أمامه على أرض المعركة، يغمد سيفه في وسط الساحة، وينسحب، أو يقتل نفسه، لكي تكتمل الحكاية. فإنني ألاحظ أن الرجل، الذي ترتجف نفسه لهسهسة الموج الخافت على بحر العرب أو الهند، ويدهشه الطائر الذي يحط على مقربة منه، سمه غراباً أو يمامة، مرسلاً صفيرا يشبه صنوج غجر تتلاشى في الفضاء البعيد... والرجل الذي يرى إلى الحياة وسكانها كما يرى إلى ذباب بحيرة فكتوريا في افريقيا...: الذباب الشبح، الذي تجتذبه أضواء القمر، فيفقس بيوضه ويتناسل في ظلال هذه الطلعة القمرية، ثم يموت على الفور... والرجل الذي ولد بين النخلة والجبل، وبين موجة البحر وموجة الرمل... والرجل الخارج إلى الكتابة، كما يخرج مغامر من الربع الخالي إلى الرواية، والرجل الذي يتعامل مع كهوف عُمان، كما يتعامل مع كهوف نفسه، والرجل الذي حين يمضي إلى مكتبه، يفكر في البحر، وحين يمضي إلى البحر، يمضي إلى همنغواي وبورخيس، والرجل الذي يتنقّل بين عواصم الشرق والغرب من مسقط إلى بيروت ومن بيروت للقاهرة، ومن امستردام إلى باريس ومن باريس إلى آخر الأرض.... كما يتنقّل بين صفحة وصفحة من كتاب... هذا الرجل الذي لم يكفه الشعر لإفراغ ضجره وكآبته، وَوَصْفِ وحشيّة الأمكنة التي طلع منها نبتُهُ وأصلُهُ وتلك التي ذهب إليها بحثاً عن صديق.... هذا الرجل وجد أنّ وصف أيامه ونثرها في كتاب، على صيغة يوميّات متعاقبة بلا تواريخ، ضروري.. لأية غاية؟ نعم ضروري لأية غاية؟. إنه يصف في مطلع اليوميات وبلا تواريخ محدد، أنه في إحدى رحلاته من المغرب إلى عُمان، في الطائرة، شغل خلال الرحلة الطويلة، بتصحيح مخطوط لكتاب جديد له... ثم، بعد الوصول والمغادرة، يكتشف أنه نسي المخطوط في الطائرة... وقد ضاع منه إلى الأبد. يسجل حزنه على ذلك في البداية، لكنه يستدرك فيقول إنّ ضياع هذا المخطوط منحه هدية غامضة، مليئة بالاحتمالات، فقد تسلل المخطوط الضائع إلى كتابات لاحقة،.. «ربما ستكون أفضل وأقرب إلى نفسه». ويكتب، معلقاً على هذه الحادثة: «ثمة عصافير حرّة تغنّي في الشرفة المهجورة». نسأل: هل كتابة الأيام تعمل لتثبيتها وتأبيدها، أم لإبادتها؟ وهل سَرَد سيف الرحبي يومياته المتتالية كسرد موصول، لكي يثبتها أم لكي يدمّرها ويفرغ منها؟ يقول إنه يميل إلى إبادة الصُوَر التذكارية والرسائل. وإنه ذات مرّة من المرات، جمع فجأة جميع الصور التذكارية الموجودة في الألبوم، وأشعل فيها النار. ولا أحسب أن الإجابة عن هذا السؤال، سهلة... إن سيف الرحبي ستلحقه الحيرة. هل هو يثبت أيامه أم ينفيها حين يسجلها؟ ومن البداية تعروه قشعريرة السؤال: «في أي يوم نحن الآن؟ الأربعاء، الخميس، الأحد؟ في أي ساعة وزمن وتاريخ؟ لا أكاد أتبيّن علامات الأزمنة. الغبار يلفّ المشهد بكامله، الغبار الأرضي وذاك القادم من كواكب أخرى. الزمن يسيل سيلان الدماء الغزيرة في الطرقات والشوارع، في الأزقة والأودية، على الأرض العربيّة والعالم. الزمن المتدفّق والمتجمّد كصخور خزافية جاثمة على صدر الكائن وهو يختنق بأنينه البائس تحت بطشها المطلق. في أي يومٍ نحن الآن؟ في أي ساعة وتاريخ؟ إنّ الذاكرة عدوّ، كما يعبّر عن هذه الفكرة «رينيه كرافيل». ومع ذلك، فإن الشعراء والكتّاب، ميّاليون لتثبيت ذاكرتهم، وكتابة سيرهم الذاتية، بصورة يوميات أو بأية صورة أخرى. وعلى الرغم من أن سيف الرحبي وجد نشوة كبيرة، وهو ينظر إلى النيران تلتهم بقايا ألبوماته ورسائله، وأحسّ بنوعٍ من الراحة والتخفّف من أعباء الذكريات التي بقيت ترقد في الأعماق، مطالبةً بحقوقها، وهو ينظر إلى الصور والوجوه العزيزة تحترق وتتهاوى في ألسنة النيران... إلا أنه ماذا فعل في كتابه «أرق الصحراء» سوى إثبات من كان في داخله رغبة حارقة في نفيه؟ في توثيق ما كان يرغب في إتلافه. قطبان للسلب والإيجاب، يشدّان في وقت واحد، على رقبة أيامنا، فنرغب في إثباتها رغبة الشمس في إثبات الظلال، ثم نرغب في محوها مثلما يمحو الليل الظلال. فمن نحن يا ترى؟ وما الذي نريده من الحياة؟ بل ما الذي تريده الحياة منّا؟ بل ما اليوم وما الأمس وما الغد وما الحياة وما الموت؟ هذا الحسّ بالفوات. وهذا الحسّ بالزوال، لا يفارق سيف الرحبي، كيفما ارتحل، وحيثما حَلّ. وكأنه يستعير قول جوته: «إن أقمتَ في العالم، فرَّ منك كالحلم، وإن رحَلْتَ، حدّدَ لك القدر المكان،،، لا الحَرُّ ولا البردُ يمكن التحكّم فيهما سيشيخ على الفور ويذبُل». هاجس سيف الرحبي الملحّ عليه بأن يسجّل نثار يومياته، وبلا تواريخ، ولكن مع ذكر أحداث سياسية أو اجتماعية، بعينها، هو الذي أملى عليه هذه الصورة الموصوفة في إخراج كتابه. أحسب أن كثيراً من ثلث اليوميات، وتأرجح الأحوال، والتأمّل في الحوادث والناس، في الأمكنة والأزمنة، قد دخل في صلب قصائد سيف، ودواوينه. لكنّ دخولها هناك هو غير دخولها هنا. إنها تدخل في اليوميات على صورة أحداث بعينها، بأوصافها وأسماء أصحابها، بأماكنها خاصة، وببعض إيماءات حدثيتها الزمنية، لتكون شاهداً على حياة معيوشة. حياة حسيّة وحدثية، أكثر مما هي شواهد على التأمّل والتغيير.. أعني إبداع قصيدة أو رواية. ولو ألحق الكاتب في آخر الكتاب، مسرداً بالأمكنة التي وردت في اليوميات ومسرداً آخر بالأشخاص من أدباء وشعراء وأصدقاء وصحافيين، لقدّم ذلك لنا دليلاً على المروحة الواسعة للأمكنة التي ارتادها الكاتب، حتى لكأنه في هذا التنقّل بين المدن والأمكنة، أشبه ما يكون بقول المتنبي: «على قَلقٍ كأنّ الريح تحتي...» وحتى لكأنه لكثرة ما يستعرض من أسماء ووجوه لا يكاد يترك كاتباً بقلم، أو ناشراً لفكرة، وإلا وله معه وقفة أو حديث... وهو إذ يمرّ على الأمكنة المتناثرة، والأصدقاء المتناثرين، فكأنه، إذّ يعود إليهم، في يوميّات مدوّنة، لا يرغب في تركهم يذوبون في غبَش السنوات إلى الأَبَد... ومن حيث يمزّق الألبوم، يحافظ عليه.