ظهرت تفسيرات عدة بشأن مواجع العراق والعراقيين، فالحال التي عاشها ويعيشها ذلك البلد العريق تكفي ان يكون شعبه محط دارسات واختبارات. ولعل اكثر الدراسات صدرت من غير العراقيين، ومن مهتمين بعلم الاجتماع. فلم تكن كربة اليوم هي الفريدة في تاريخه، لكنها على الارجح كانت الأعمق، والاجدر بالاهتمام، لكنها جاءت في عصر متميز بالتطور الهائل، وعدم مسايرة ذلك التطور يعني العيش على الهامش في ضراعة وخضوع. والعراق، بالحصار الخارجي والجور الداخلي، تنحى الى الوراء عشرات السنين، وسيدخل الألف الثالث بإنسان منهك القوى، ضعيف الحيلة والوسيلة. بيد ان المعروف عن العراق، بما اشارت اليه آثاره السومرية والبابلية والآشورية والاسلامية، انه كان رائداً في بناء الحضارة. وكذلك يشير عزوف انسانه، طيلة الحقب السابقة، عن الهجرة والتغرب انه بلد لا ينقصه شيء، متحصن برافديه ونخيله. وإذا لم يكن الانسان العراقي هو الأول في اختراع الكتابة والعجلة، فهو، من دون شك، احد الأوائل في هذا المضمار. تروي صفحات التاريخ ان هذا البلد تعرض لجملة من الفواجع، مرة من غزو خارجي، وأخرى من داخله. وقيل في غزو التتار لبغداد: "خُربت بغداد الخراب العظيم، وأحرقت كتب العلم التي كانت من سائر العلوم والفنون التي ما كانت في الدنيا، قيل: انهم بنوا بها جسراً من الطين والماء عوضاً عن الآجر" النجوم الزاهرة، ج7، ص51. ووقف ازاء تلك القسوة وسفك الدماء مؤرخون سابقون، منهم من فسرها بجهل العراقيين وميلهم للعنف، وان رغبتهم في العصيان سجية نشأوا عليها. بينما جعل آخرون ذلك نتيجة لتفوقهم المعرفي والعقلي، وشتان ما بين التفسيرين. وفي سبيل اضفاء الشرعية، سعى الطرفان الى التحصن بأحاديث نبوية، على الغالب انها من الاحاديث الموضوعة، فمن الاحاديث التي تبناها الطرف الأول: "ان بها ارض العراق قرن الشيطان، وتهيج الفتن، وان الجفاء بالمشرق". ويقول حديث نبوي آخر رواه الحجاج بن يوسف عن تقاة، كما ورد في الوصف: "قال الخصب: انا انزل العراق، فقال النفاق وأنا معك". اما احاديث الطرف الثاني فكان منها: "ان ابراهيم عليه السلام همّ ان يدعو عليهم العراقيين، فأوحى اللع تعالى اليه: ان لا تفعل فاني جعلت خزائن علمي فيهم، وأسكنت الرحمة قلوبهم". وعدّ احد المؤرخين، من غير العراقيين، الحديث الآتي: "قيل للعلم: أين تريد؟ قال العراق، قال العقل: وأنا معك" من "امثال الناس السائرة". ومن الغريب ان مؤرخاً عراقياً معاصراً، مثل بهجت الأثري، عدّ احاديث ذم العراق من الاحاديث الموثوقة، بينما عدّ احاديث المدح من الاحاديث المزيفة، على رغم اعتراف ابن الجوزي الحنبلي ت 597ه، وتسجيلها في كتابه "مناقب بغداد". كان لعمرو بن بحر الجاحظ حضوره في تلك التفسيرات، ولعلّ انحيازه للفكر العقلي يجعلنا نأخذ تفسيره لمآسي العراق، على محمل الجد، على رغم انه عراقي، وقد لا يأمن جانب انحيازه. ويخالف الواقع من يقول ان اممية الدين الغت الانحياز الى البلد او القبيلة، ففي التاريخ امثلة لا تحصى ولا تعد على ذلك. قال الجاحظ معلقاً على فتور العراقيين عن القتال مع الامام علي بن أبي طالب، وتصديهم للحجاج وقبله لزياد بن أبيه: "العلة في عصيان اهل العراق على الامراء ...، ان اهل العراق اهل نظر وذوو فطن ثاقبة، ومع الفطنة والنظر يكون التنقيب والبحث، ومع التنقيب والبحث يكون الطعن والقدح، والترجيح بين الرجال، والتمييز بين الرؤساء، واظهار عيوب الامراء" شرح نهج البلاغة، 1 ص43. وكان الجاحظ عثمانياً، وبالتالي قد لا يكون محايداً عندما يتكلم عن علي ابن ابي طالب، وخذلان العراقيين له! لكن شارح نهج البلاغة، عزالدين بن أبي الحديد، فسر مأساة العراقيين على المنوال نفسه، ورد ذلك بقوله: "مما ينقدح لي من الفرق بين هؤلاء القوم وبين العرب الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه وآله، ان هؤلاء من العراق وساكني الكوفة، وطينة العراق ما زالت تنبت ارباب الأهواء وأصحاب النحل العجيبة، والمذاهب البديعة، وأهل هذا الاقليم اهل بصر وتدقيق ونظر، وبحث عن الآراء والعقائد، وشبه معترضة في المذاهب، وقد كان منهم في أيام الاكاسرة مثل ماني وديصان ومزدك وغيرهم" شرح نهج البلاغة 7 ص51. وابن ابي الحديد كان عراقياً ايضاً من اهل المدائن سلمان باك، ومحباً لعلي، الى درجة ان اعتبره عدد من مؤرخي الشيعة امامياً. ومعروف انه كان معتزلي الفكر، شافعي الفقه. كان القولان رداً على خطب الحجاج بن يوسف الثقفي المدوية، والتي كثيراً ما كان يلقيها عند ظهور تمرد، وانتصار على آخر، ويبتدئ معظمها بعبارة "يا اهل العراق، يا اهل الشقاق والنفاق". وكان قد فتح بها بوابات العذاب ولم يغلقها، فقد جاء بعده من يساويه بالقسوة. ويوماً قام خاطباً بمناسبة قتل اخيه وولده: "بلغني انكم تقولون: يموت الحجاج، ومات الحجاج! فمَهْ! وما كان ماذا، والله ما ارجو الخير كله الا بعد الموت! ما رضي الله البقاء الا لأهون المخلوقين عليه ابليس ...، يا اهل العراق، اتيتكم وأنا ذو لمّة وافرة وأرفل فيها، فما زال بيّ شقاقكم وعصيانكم حتى احص شعري". ويعني ان رأسه قد اصلع من بلد ما ان يهدأ شهر حتى يضطرب سنوات. ويعبر الشاعر اعشى همدان عن اماني الحجاج بالعراق بقوله: "وينزل ذلاً بالعراق وأهله/ كما نقضوا العهد الوثيق المؤكد". اوضح الجاحظ وابن ابي الحديد ان مأساة العراقيين كانت في تفوق عقولهم، كونهم لا ينقادون بسهولة. ولعلّ ابن ابي الحديد حسب لجغرافية العراق من الموصل حتى عبادان حسابها في وجود هذه الخصلة، فهي متنوعة وخزينها لا ينضب، وقد تطبع في النفوس الكبرياء والزهو، وبقدر ما تبدو منبسطة تبدو صعبة المراس، خصوصاً في الأهوار والجبال، فهما خير مكانين للمقاومة الدائمة. ولعلّ الشاعر البليغ سبق عالم الاجتماع في التعبير عن الازدواجية في المجتمع العراقي، وهو افضل من قرنها بالظاهرة الجغرافية، ففي ذلك قال محمد مهدي الجواهري عاكساً غلواء دجلة في فيضانه الى حد الخراب، وفي صيهوده الى خوض الاطفال فيه، وما يتصوره الشاعر من انعكاس ذلك الطبع على الفرد العراقي، واسرافه في العاطفة مقصورته، عند الوداع: ودجلة لهو الصبايا الملاح تخوض منها بماء صرى تريك العراقي في الحالتين يسرفُ في شحه والندى ولكن هل يكون هذا مبرراً لقتل العراقيين، وزجهم بالسجون، وتجويعهم حتى يسهل انقيادهم، ولجم غلوائهم، او حبس خطر عقولهم على امم اخرى؟ هناك من يرى ذلك فعلاً، مبرراً دموية الحجاج بن يوسف الثقفي... فصاحب الكرسي يريد حفظ كرسيه وإن كان يطفو فوق بحيرة من دماء. والخارج يخيفه محتوى مقولتي الجاحظ وابن ابي الحديد. وعلى أية حال، ان ما نستخلصه من هاتين المقولتين ان اهل النظر والمعرفة لا يحكمون الا بإرادتهم الجماعية، وبالتالي عبثاً يحاول فرد او اتجاه واحد في الاستحواذ على السلطة بمفرده بالعراق، وان يتسبب له الامر، فذلك محال! * باحث عراقي.