لفت نظري، وأنا أقرأ تفاصيل مراسم وضع حجر الأساس لبناية المتحف العراقي العام 1957، ما يوضع من أشياء صغيرة، مثل نماذج من النقود والطوابع وصورة خطاب وشرح عام للمناسبة، داخل أنبوبة حافظة، تدفن تحت الحجر الأساس لمشروع من المشاريع. لا ريب أن هذا التقليد، في البداية، كان محاولة نحو الخلود عن طريق الآثار، لكنه الى جانب ذلك سهل مهمة المؤرخين والأثريين، في التعرف على عهد من العهود. ووفقاً لهذا التقليد أصبح كل ما نتخيله من سحر الزقورات، ودقة نقوش بوابة عشتار، الى ارتفاع طاق كسرى من دون حديد أو خشب وغيرها منسوب الى شخص واحد، فهو المهندس والمنفق والعامل. أما البناءون والفنانون، وحاملو الأحجار فلا ذكر لهم! حتى لا توجد اشارة الى موتهم بإصابة عمل أو ضربة شمس. لكن الأمر كان مختلفاً بمصر، عنه بالعراق، فقد كُشف عن قرى أثرية خاصة بالعمال، عثر فيها على أدق التفاصيل من أسماء العمال الى أجورهم وإجازاتهم1. ما شيده وخطه الأجداد وكشف عنه الأحفاد كان آثاراً وتراثاً، وهما مصطلحان متشابهان بالبنية والمعنى. الأولى من الأثر، وهي، على حد تعريف الجرجاني "اللوازم المعللة بالشيء"، كان حجارة أو كتاباً، والثانية من الإرث، كان أرضاً أو نقوداً. بعد قلب الحروف يتحول، المصطلحان، أحدهما الى الآخر، من دون أن يتأثر المعنى، أما اختلاف الاستعمال فقد ظهر فيما بعد. استعمل القدماء مصطلح الآثار عند تعاملهم مع الماضي، بمعنى التركة، فكرية كانت أو مادية. فظهر المصطلح المذكور عنواناً لكتب عديدة، جمع فيه مؤلفوها بين الصنفين من التركة، ومن أبرز تلك الكتب كان كتاب "الآثار الباقية عن القرون الخالية" لأبي الريحان البيروني. أما مصطلح تراث فهو جديد الاستعمال، ولعله ظهر مقابل مصطلح الحداثة أو المعاصرة، مرة لكبح جماحها وأخرى لمسايرتها. إن كلمة تراث، كمصطلح، لم يرد في أمهات المعاجم العربية، واستعماله بدلاً عن آثار له علاقة بالإرث الحي، في كل مناحي الحياة. ما أراه، بهذا الصدد، أن كل الآثار ما زالت حية، وهناك قصور في إطلاق مصطلح التراث عن تاريخ حقبة دون أخرى، على أساس أنها التركة الحية، من تاريخ المنطقة. لهذا، ان الفصل بين القديم البعيد، على أساس أنه أثر ميت، والقديم القريب على أساس أنه أرث حي، يبدو لي قراءة غير موفقة. بعد هذا الإيضاح سأتناول بالتفصيل، تاريخ الاهتمام بالآثار العراقية القديمة كأصول حية في المجتمع العراقي، فالذاكرة الشعبية ما زالت تحتفظ، من الأزمنة الغابرة، بتفاصيل كثيرة. يوجد بالعراق، حتى نهاية السبعينات 6555 موقعاً أثرياً، موزعة على ألوية العراق الستة عشر. الموصل 1159، كركوك 755، الناصرية 703، بغداد 560، بعقوبة 473، دهوك 455، أربيل 384، سليمانية 375، الكوت 268، الرمادي 248، الحلة 224، كربلاء 173 ضمنها النجف والكوفة، البصرة 96، السماوة 79. سجلت مديرية الآثار العامة هذه المواقع على 136 خارطة2. تظهر تسمية الموقع بالإيشان كلما انحدر المساحون صوب الأهوار، فقد عينوا بمركز الجبايش فقط ستة وعشرين موقعاً أثرياً، تسعة عشر منها تسمى بالايشان، والأخيرة كلمة سومرية تعني التل، ما زالت مستعملة على نطاق واسع. والإشن، كما شاهدناها، جزر صغيرة في داخل الأهوار، نسجت حولها أساطير وخرافات أخذت بلب الرحالة لسحرها وطرافتها. أما في المناطق اليابسة والصحراوية فكثيراً ما تطلق تسمية التل على المواقع الأثرية. ولعلَّ السومريين كانوا يخصون التلال المحيطة بالماء، دون غيرها، بتسمية إيشان، ففي تسمية المواقع الأثرية يأخذ المساحون ما يدل على الموقع من تسمية تاريخية، أو ما هو شائع بين الناس. ولعلَّ سائل يسأل أين ذهبت خرائب تلك المدن الدول؟ فهل كانت مقتصرة فقط على خرائب أور وبابل ونينوى، والتي لا تتعدى مساحة البناء الظاهر منها مئات الأمتار؟ أين قصور الملوك والمعابد، ومنازل الرعية؟ على هذا السؤال أجاب الأب لويس الكرملي هكذا ورد توقيعه في نهاية الموضوع قبل ستة وثمانين عاماً، بقوله: "تنبيه عام، أجل ان الأبنية نفسها، التي كانت قائمة على أديم الأرض، هدمت منذ عهد عهيد، ليستخرج منها الآجر، فاستخرج منها شيء لا يتصوره العاقل لكثرته، وبنيت به أبنية ليتها لم تبن ولم تكن. إذ نُقلت أولاً، تلك الأنقاض الى سبوقية هكذا وردت، وذلك في عهد خلف اسكندر ذي القرنين، ثم إلى طيسفون المعروفة اليوم بإسم سلمان باك، وهو سلمان الفارسي، وهند الإفرنج بإسم اكتيسيفون الراكبة دجلة، ومنها الى بغداد، إذ وجد النقابون، وما زالوا يجدون في بغداد أبنية قد شيدت قواعدها وأسسها بآجر عليه كتابات وخطوط آشورية، أو مسمارية، مصدرها أو مأخذها مدينة بابل الشهيرة. ويُشير الكرملي الى سبب هذا التخريب، ونقل آجر تلك المدن الأثرية بقوله: ولا تستغرب هذا النقل من مدينة الى أخرى، لأنك إذا أغرت في العراق وأنجدت، وأسهلت وأحزنت، وصعدت وحدرت، لا تعثر فيه على حجارة للبناء، كما تعثر في سائر الديار، وعليه فالعثور على كنز دفين، أو علق ثمين، ولذلك جميع عمائر هذه الديار من قديمة وحديثة، مبنية كلها بالآجر، الذي يسميه العراقيون الطابوق3. لكن من أين أتى السومريون والبابليون والآشوريون بالطابوق، حتى يعذر الأب الكرملي العراقيين من هذا الهدم، بحجة عدم وجود أحجار البناء؟ بالتأكيد أنهم اهتدوا الى صناعة ما عجزت عن صناعته العهود المتأخرة. اعترض الجاحظ، مبكراً، على العبث بالآثار، العمارة منها والثقافة، كونها الماضي الذي لا حاضر ولا مستقبل، ورد ذلك بقوله: "لأن من شأن الملوك أن يطمسوا على آثار من قبلهم، وأن يميتوا ذكر أعدائهم. فقد هدموا بذلك السبب أكثر المدن، وأكثر الحصون، كذلك كانوا أيام العجم، وأيام الجاهلية، وعلى ذلك هم في الإسلام، كما هدم عثمان صومعة غمدان، وكما هدم الحصون التي كانت بالمدينة، وكما هدم زياد كل قصر لابن عامر، كما هدم أصحابنا العباسيون بناء مدن الشامات لبني مروان4. ويقول الجاحظ، حول العبث بالآثار المكتوبة وتدمير التركة الفكرية، مشيراً الى معاناة المؤلف قديماً: وكانوا يجعلون الكتاب حفراً في الصخور، ونقشاً في الحجارة". لم يكترث العثمانيون بسرقات الآثار، التي كانت تجري على قدم وساق من قبل بعثات التنقيب، ففي أواسط القرن الماضي حملت السفن أنفس الآثار العراقية الى المتاحف البريطانية والفرنسية والأميركية. فالبعثة التي تحصل على فرمان سلطاني بالتنقيب تحمل ما تشاء من الآثار، من دون رقيب. قال سيتون لويد، المستشار الفني لمديرية الآثار العامة، في مقال نشرته مجلة "سومر": "وفي خلال تلك المدة سار على نهر دجلة الكثير من السفن والأكلال المسروقة بالمنحوتات الآشورية، المرسلة الى المتاحف الرئيسية في أوروبا والعالم الجديد والمستندات التاريخية التي لا تُثمن، تلك التي حلَّ رموزها علماء الغرب". من تلك الآثار المُرحَّلة عبر دجلة مسافة "ميلين من الألواح المنحوتة، وسبعة وعشرين مدخلاً مكوناً من ثيران مجنحة ضخمة، وأسود جاثمة". أما ما حمله الألمان من آثار بابل الى متحف بيركامون ميوزيم ببرلين، بعناية فائقة، كان بوابة عشتار، وضريح نبوخذ نصر الحجري، ومئات من القطع الأثرية الأخرى. ما زالت بوابة عشتار، بكامل هيئتها تقريباً، تضفي على متحف برلين الهيبة والعمق التاريخي. فبين جدرانها يحلم الزائر أنه في بابل وليس في برلين، يشم عبق القرون الخوالي، ويفيق من حلمه هذا على أجهزة الحراسة الحذرة جداً، أو صوت المترجم الآلي، أو على رطانة السياح المبهورين. وقفت أتأمل ألوان أحجار البوابة الزاهية، من أي مادة حضرها الفنان البابلي، وكيف شكلها هذه التشكيلة العجيبة، حتى أعطاها قوة البقاء لآلاف السنين. بدت لي أنها ليست أحجاراً مطلية بألوان، بل هي أحجار ملونة، يود المرء لو تمكن من كسر أحدها حتى يتبين حقيقة ذلك. شغل ضريح الملك نبوخذ نصر غرفة كبيرة تحت الأرض، يبدو المكان وكأنه مزار مقدس، كما كان عند البابليين. ولعلَّ هاجس الزائر وهو يطوف حول الضريح الحجري لمعرفة ما بداخله، فأين جسد الملك ومجوهراته المدفونة معه، كما ورد في الألواح؟ لم يبق من البشر البابلي، الذي صال وجال وشيد تلك الحضارة العظيمة، غير جثمان متفحم لصبي ما زال محتفظاً بهيئته الخارجية، معروضاً للفرجة بصندوق زجاجي. أما عن كنوز بابل الذهبية فيؤكد أهل المدينة، أنهم يعثرون بين فترة وأخرى على ضريح مفتوح، فيه عظام وجماجم، تركها السراق بعد أن نهبوا ما فيها من نفيس المعدن. لا أمل بعودة نفائس بابل المغتربة، فالعراقيون تشتتوا مثل بقايا أجدادهم لاجئين هنا وهناك، وببرلين ذاتها عدد كبير منهم، قد يتذكرون الاحتفال بمئوية مغادرة البوابة العراق الى مكانها الأخير، والتي توافق نهاية هذا القرن. ذكر المتنبي نفائس بابل وسحرها، وهو يفخر بنفسه قائلاً: "ما نال أهل الجاهلية كلهم شعري ولا سمعت بسحري بابل". كذلك نقل البريطانيون أنفس الآثار، السومرية والأكدية والعباسية، الى المتحف البريطاني بلندن. منها غنائم حرب، ومنها عن طريق بعثات التنقيب. يقول ساطع الحصري حول حصة بعثات التنقيب من الآثار: "عندما أحتل البريطانيون العراق كانت الآثار التي اكتشفتها بعثة هرسفلت في حفريات دور سامراء باقية هناك نحو 150 صندوقاً، و عندما استولى الجيش البريطاني على سامراء نقلت الصناديق المذكورة بأجمعها، واعتبرها من غنائم الحرب، وأهداها للمتحف البريطاني في لندن5، أما السرقة المفضوحة تلك التي قام بها مدير الآثار العراقية البريطاني مستر كوك، أو أن الانتداب على العراق. كان كوك يتاجر بالآثار على قدم وساق، فليس هناك دليل يثبت إدانته، ولم ينفع تنبيه نواب في البرلمان العراقي من تطاول هذا المسؤول، والحكومة تتحفظ على ذلك بحجة: "لا يمكن أن تعمل شيئاً بناء للإشاعات، ما لم تحصل على دليل لذلك6، ما حصل، أن المستر كوك أرسل عدداً من الصناديق الى لندن، على أساس أنها أشياء شخصية، وحدث، ما ليس في الحسبان، أن كُسر أحد الصناديق بمنطقة الرطبة، فتبين أن هذا الصندوق كان مملوءاً بآثار قديمة، وكذلك الصناديق الأخرى. تدارك المندوب السامي البريطاني كوكس الأمر بتسفير كوك إلى لندن. أثارت تصرفات كوك بالآثار النائب جعفر أبو التمن، وغيره من النواب الوطنيين وهم يُدافعون عن اقتراح تعيين مراقبين عراقيين في مواقع التنقيب، بينما رفض ذلك رئيس الوزراء توفيق السويدي، بتبريرات غير مقبولة. قال جعفر أبو التمن: "ذكر فخامة رئيس الوزراء مسألة المراقبين ومصاريفهم، التي صرح القانون بلزوم تأديتها من قبل البعثات، غير أنه يشك في أن تعيين المراقبين ينتج منه فائدة... ولكن أشك بناء على التجارب التي مضت بأن هذه الدائرة أخذها على عهدته منْ كنَا نظن أنه يحميها من كل تلاعب، ولكن سمعنا أنه تاجر بكثير من الأحجار والأدوات والآثار7. شاع خبر السرقة في المجالس البغدادية، فأصبحت حديث الساعة. وفي ذلك نظم الشاعر الشعبي ملا عبود الكرخي قصيدة طويلة بالمناسبة، منها: لا تلقلق يحبسوك ولا تكَول أنهزم كوك لا تكول انهزم اعلم يا عراقي كثير تندم من العراق آثار هرّب لا تكَول وتالي تتعب لأن واحد كوك ينهب غيره يا كرخي لكوك8 حصلت أكبر سرقات للآثار قبل تولي الحكومة العراقية لشؤون دائرة الآثار. فقد تأسست الدائرة في العام 1920 تحت اسم الدائرة الأركيولوجية، ملحقة بوزارة المعارف، وبإدارة السكرتيرة الشرقية للمندوب السامي البريطاني مس بل، ولغرض التلاعب بحصة العراق من الآثار المكتشفة سعت الى الحاق تلك الدائرة بوزارة المواصلات والأشغال بدلاً من المعارف. يروي ساطع الحصري، أول مدير لدائرة الآثار من قبل الحكومة العراقية، القصة: أن مس بل قدمت مشروعاً لقانون الآثار لوزارة المعارف، طالبة رفعه الى مجلس الوزراء للمصادقة عليه. وعلى حد قولها أنه جاء موافقاً لأحكام المعاهدة بين دول الحلفاء وتركيا، بعد الحرب العالمية الأولى. وجد الحصري بعد مطالعة مواد القانون ما يُنافي بنود تلك المعاهدة، فهو يعطي بعثات التنقيب أكثر بكثير من المتفق عليه. وبعد جدل طويل مع معاون الوزير الحصري أسرعت مس بل الى تقديم طلب لمجلس الوزراء تحثه على فك ارتباط دائرة الآثار بوزارة المعارف وربطها بوزارة المواصلات والأشغال. وبعد صدور القانون، الذي قدمت مس بل مشروعه، عادت دائرة الآثار الى وزارة المعارف من دون تحفظ. بعد وفاة مس بل أنيطت الدائرة بمستر كوك السالف الذكر، وبعد تسفيره الى لندن كُلف سدني سمث برئاستها، وكان يشغل وظيفة معاون مدير المتحف البريطاني، بعده استلم الدكتور يوردان المسؤولية، حتى صدر تعيين ساطع الحصري مديراً للآثار الى جانب مهام عمادة كلية الحقوق ببغداد، شريطة أن يبقى يوردان مستشاراً للدائرة. 1 صناع الخلود حياة عمال قرية دير المدينة، مروريس بيربراير، ترجمة عكاشة الدالي. 2 أطلس المواقع الأثرية بالعراق، 1976. 3 الكرملي، الحفر والتنقيب في أطلال بابل، مجلة لغة العرب، شباط 1912. 4 كتابنا معتزلة بغدادوالبصرة، 151، عن كتاب الحيوان للجاحظ. 5 الحصري، مذكراتي في العراق، 2/395. 6 المصدر نفسه 297. 7 المصدر نفسه 1/401 نص مداخلة أبي التمن في البرلمان. 8 ديوان عبود الكرخي، 1/85-86. * باحث عراقي.