يدعونا خالد المبارك صفحة "أفكار"19/11/1998 الى "التعاطف مع اليهود وزيادة الوعي في حياتنا بما تعرضوا له من اضطهاد وإبادة في اوروبا" أثناء الحرب العالمية الثانية، ويقترح تعديل المناهج الدراسية في مدارسنا وجامعاتنا "لكي نزيد من معرفة الاجيال اللاحقة بتاريخ المانيا في الثلاثينات الذي ألقى بظله علينا في فلسطين"، للوهلة الاولى تبدو هذه الدعوة وكأنها محاولة لتقديم شهادة حسن سير وسلوك أخرى من نوعية الشهادات التي لا تتوقف السلطة الفلسطينية عن التطوع بتقديمها فلا تأخذ مقابلا لها غير مزيد من المماطلة والتعنت ومصادرة الأراضي. إن الربط بين فلسطين واضطهاد النازي لليهود فيه كثير من التعسف. فقد ظهرت دعوة هرتزل وصدر وعد بلفور وبدأ اغتصاب فلسطين مع موجات الهجرة اليهودية قبل عقود طويلة من الحرب العالمية الثانية. والصحيح هو أن اليهود نجحوا من منطلق سادي بحت لا علاقة له بالعاطفة في توظيف الاضطهاد النازي كأداة لتسريع عملية الهجرة والتعجيل بإعلان الدولة. إنسانياً، إذن، علينا ان نتعامل مع المحرقة بشيء من الموضوعية، فلا نميز اليهود عن غيرهم من الأقوام الذين اضطهدهم النازي وسعى إلى إبادتهم مثل البولنديين والغجر والشيوعيين والمرضى والمعاقين. وإذا كانوا في الغرب يميزون اليهود ويتجاهلون ما عداهم لأسباب معروفة مناهضة لمصالحنا، فبأي منطق نقتدي بهم؟ لقد فرضوا مناهج دراسة "الهولوكوست" في عشرات من المدارس والجامعات الاوروبية والاميركية لتأمين استمرار "عقدة الذنب" في عقول الاجيال الناشئة، فماذا يدعونا لأن نحذو حذوهم؟ يزعم المبارك أن ذلك "سيساعدنا في فهم عقلية اليهود عندما يتحدثون عن الأمن". المعضلة التي لا يلتفت إليها خالد المبارك هي ان مزج "الفهم" مع التعاطف لا يقود إلا إلى التسليم بمبررات اليهود في استغلال المحرقة سياسياً وتفهم "احتياجاتهم الأمنية"، وهذا بدوره يؤدي الى التكيف مع ذريعة الأمن والخضوع لها مع كل ما يتبع ذلك من إذلال وإهانة وتدمير لبنية مجتمعاتنا التحتية، كما هو جارٍ اليوم مع السلطة الفلسطينية. أيضا لماذا لا نتجاهل محارقهم كما يتجاهلون هم محارق المسلمين بالتعتيم عليها أو الانتفاص من فظائعها؟ لقد هاج يهود الصحافة الأميركية وماجوا منذ سنوات عندما استخدم البعض لفظ "الهولوكوست" لوصف ما يجري في البوسنة من مجازر وعمليات اغتصاب جماعي تهدف الى استئصال شأفة المجتمع المسلم هناك، فزعموا أنه لا يجوز عقد مقارنة بين الحدثين. الهولوكوست، كما يرون، يجب أن يظل حكراً لهم حتى يتمكنوا من ترويجه وتوظيفه سياسيا. ولذلك تعامل هؤلاء المروجون بلا مبالاة مع إقدام أهل السياسة على نصب سلوبودان ميلوسوسفيتش - مهندس ومخطط إبادة مسلمي البلقان - كصانع سلام لا غنى عنه في توقيع إتفاق "دايتون". وسكتوا عن وضع الضحية في كفة متساوية مع القاتل، كما سكتوا عن الصفقات السرية مع كبار مجرمي الحرب الصرب لإخفائهم عن الأنظار. أما مأساة اللاجئين وجريمة تقسيم البوسنة وتشويه معاملها فلا مكان لهما في قائمة أولوياتهم. حتى محاكم التفتيش الكاثوليكية ضد مسلمي الأندلس لم تسلم من التدليس، فنراهم يعمدون إلى التعتيم على أنه كانت هناك أغلبية مسلمة في أسبانيا تعرضت لإبادة وحشية. ولأن الأجيال الناشئة مشحونة بدراسة الهولوكوست، فكل شيء مباح تمريره من خلالها إلى العقول الخاوية. فمثلا نقرأ في "نيويورك تايمز" 31/10/1998 عن عزم بابا الفاتيكان إعلان استغفار الكنيسة عن محاكم التفتيش، حيث يقول الكاتب: "لقد ركزت محاكم التفتيش في الاساس على اختبار ديانة اليهود مع أن السلطات استخدمت التعذيب ايضا ضد الخصوم السياسيين"، وفي عدد "نيويورك تايمز" 19/4/1998 يقول ريتشارد كاغان "مع أن محاكم التفتيش أنشئت خصيصا من أجل التعامل مع اليهود إلا أنها ظلت قروناً طويلة مرتبطة بقمع البروتستانت. بجانب البروتستانت واليهود المشكوك في اعتناقهم المسيحية، استغل الأسبان هذه المحاكم لمطاردة وعقاب المجدفين والشواذ جنسيا ومتعددي الزوجات". على عكس تجاهلهم معاناة العرب والمسلمين الذي يعكس إستهانة بإنسانيتنا، لا أظن أن فينا من يستهين بمعاناة الإنسان أياً كان إبان الاضطهاد النازي، ولكننا نرفض ونستهين باحتكار هذه المعاناة وتوظيفها لخدمة أغراض شريرة، وحجب أو تشويه ما جرى ويجري من فظائع أخرى حتى يبقى العالم أسير الابتزاز الصهيوني. في ظل هذه الحقائق فإن تجاهل "الهولوكوست" - في القالب الاسطوري اللا إنساني المصبوب فيه حاليا - هو أمر ضروري للحفاظ على نقاء وعينا من سمومه وبالتالي أداة لا غنى عنها لمقاومة احتلال فلسطين. * كاتب وجامعي مصري.