يقع عباس بيضون في كتابه "لمريض هو الأمل" دار المسار، بيروت، 1998 في فضاء ما اصطلحنا على تسميته في سورية منذ أواسط السبعينات بشكل مؤمثل أو منمط مفهومياً ب"قصيدة التفاصيل" اليومية مقابل "قصيدة - الرؤيا" الكلية. تحيل قصيدة التفاصيل الى العوالم المتناهية في الصغر بقدر ما تحيل القصيدة - الرؤيا الى العالم المتناهي في الكبر. وتبحث قصيدة التفاصيل عن الشعري في جماليات نثر الحياة اليومية بقدر ما تبحث القصيدة - الرؤيا عنه - في جماليات "الكوسموس" الميتافيزيقي، والبحث الكهاني عما يسمى في بعض اتجاهات النظرية الشعرية الرؤيوية ب"النقطة العليا" الخفية، التي ينتج فيها الشاعر مفهومه عن نفسه كذاتٍ عليا أو كعراف، يعيد ابتكار الكون وخلقه من جديد. من هنا لا يبحث بيضون عن "الخبرة الذهبية" الرؤيوية بقدر ما ينزع عنها هيبتها ويدحرج معدنها الميتافيزيقي النفيس في وحل العابر والاعتيادي واليومي والمهمل. فيتبدد هنا معنى الشعر كما ورثناه، وكأننا إزاء شعر من دون شعر. يضفي بيضون الجمال أو الشعر على ما ليس جميلاً أو غير شعري أو وضيع أو قبيح، وبكلام أكثر دقة يبحث عن الشعري في "النثري" بمعناه الجمالي الذي يحيل الى الوقائعي اليومي في الفضاءات الحضرية الحديثة. ف"كوسموسه" الشعري إذا ما تبقى لهذه الكلمة "الميتافيزيقية" من معنى إجرائي، هو "كوسموس" التفاصيل والأمكنة واللحظات والأشياء، الصغيرة والناس العاديين. وهو ما يفسر انفتاح بيضون على "الكوسموس" اليومي، أو "كوسموس" العوالم المتناهية في الصغر، والتي تظهر في شعره وكأنها منمنمات أو سرديات ناقصة تتجاور فيها العناصر من دون أن تتمازج وتتلاقى. ويعبر بيضون في ذلك عن حس تشكيلي بالعالم، يضفي على الشعر الذي هو أساساً فن زمني سمات الفن الفراغي أو اللازمني. وينتج عن ذلك تهشيم مفهوم القصيدة وشكلها من دون أن تدعي أنها "نص بالمعنى النصوصي الحديث أو بما بعده. إنها قصيدة اللحظة أو العابر الذي لا تظهر فيه سوى الأطياف المشوهة والناقصة للجمال الأبدي، شاغل المخيلة الشعرية على كل العصور، والتي يبدو بيضون وكأنه يكتب ضدها. من هنا يتغلغل المحيط اليومي أو لغير الشعري أو للمبتذل الذي يتعالى عنه الشعر عادة في لغته، فتخترق شعره كلمات القناني والرفوف والشعر المطعّج والملاعق والطواقي وعلب السردين والشراشف والكبريت والمرق والتسخين وحلل الفاصولياء والشرش والكرع والجورة والكرسي وفناجين الشاي والمخلل والأرصفة والمفارق وطوابق البنايات... إلخ. إلا أنه يكتب هذه التفاصيل كما تكتب الملحمة، ويدحرج مضمونها البطولي في وحل المنمنمة وتفاصيلها غير البطولية. يكتب بيضون سردية مشروخة أو ناقصة عن العالم بعد أن يحيله الى "كوسموس" صغير. ويكمن في كل سردية حس ملحمي عن زمان مضى، غير أنه في إكسابه الشعر شكل السردية العرجاء أو المشوهة، يلطخ الملحمي ويجرحه، ويبرزه من دون أي بطولة أو ادعاء. ويضعه أمام مصير التبعثر والتفكك والعابر. فليس المسيح مثاله الجمالي بل الكائن الذي ما إن يعبر شعراً، أي يتسامى فوق تشيؤ العالم، حتى يجد نفسه منذ البداية في القاع. وكأنه يحول الصليب بكل ظلاله الميتافيزيقية العليا الى مجرد خشبات ومسامير، لا تصلح في حقيقتها "اليومية" إلا للوقود والحرائق والأبواب. العالم الذي نظنه واحداً ومتناغماً ليس لدى بيضون سوى منمنمات وتفاصيل مكسورة، تتخللها حسرات وبكاء صامت خجول ليس معنياً سوى بنفسه، بمعنى أنه لا يحرض ولا يبشر ولا ينشر دعاوة أو أفكاراً ولا يدعي فلسفات أو اعادة خلق للكون. من هنا تقترب لغته من لغة الصمت أو التشكيل. ويوظف بيضون شعرية الصمت والتشكيل وتجاورات أشياء المنمنمة الفراغية وتجميعية "الكولاج" والصاقاته المضمرة في كتابته، ليقول لنا ان الصمت شكل آخر للغة أو للصوت، أو انه الصوت الحقيقي حين تختفي منه الأجراس والنبرات. يأخذ البياض هنا معناه الدلالي الذي يتجاوز المعنى الفراغي أو الطباعي. انه ليس معنى بل معنى مؤجلاً أي من دون معنى مسمّر. فما يكتبه عباس بيضون ضمن علاقته اللدودة مع الميتافيزيقي والأعلى هو ضد المعنى أو بكلمة أكثر دقة ضد الهدف والغاية. انه مجاني لكن على طريقته. فلا يرى في العالم غايات بل سيرورات لا بدء لها ولا نهاية. ولكن المتفحص في كتابته يعثر خلف تقويضه للمعنى، وتفكيكه للغايات، على معنى ضدي، وغايات معكوسة. ونقصد بذلك ان بيضون وهو يهشم الميتافيزيقا والنبوءات "الكوسمولوجية" الكبرى، ينتج نوعاً من ميتافيزيقا التفاصيل، غير أنها ميتافيزيقا مشروخة ومعذبة تتموضع داخل الميتافيزيقا وتوجه الضربات ضدها وتنفيها من داخلها فيما هي تدعي أنها خارجها. إن العين الملاحظة والمراقبة والتشكيلية لبيضون تكتسب من دون أن يدري بعداً ميتافيزيقياً، هو بُعد العين الثالثة للشعر. والحق أنه يدرك الجمال الأبدي على طريقته وليس على الطريقة الميتافيزيقية لذلك الجمال، ويحاول دحرجته في اللحظات اليومية والتفصيلية والتشكيلية والمنمنمة "الوضيعة" شعرياً. ويجرب أن يقبض في ذلك كله على ظلال بعيدة ومضطربة للجمال الأبدي الذي يتوارى نفسه، ويغيض، ويظهر بأنوار مطفأة. يفكك بيضون الأبدية الى لحظات وهنيهات تدعي انفلاتها من الأبدية. يختلف عن الرؤيوي في أنه لا يرى في الأبدية تناغماً للكون أو ل"الكوسموس" بل انكساراً وتهشيماً وتشويهاً أو منمنمات ليس لمعناها معنى سوى أنه ضد المعنى أو الغاية أو الميتافيزيقا. ويدمر بيضون في ذلك، ولكن بشكل مضطرب قانونية الاستيعاب الاستعاري المحازي للعالم، ويقدم صوراً يتمثل أقلها في الاستعارة وأكثرها خارجها. لكننا لن نستطيع التفكير بالعالم من دون مجاز وتلك هي معضلة بيضون، يمضي بيضون مع ذلك بعيداً. يعري اللغة الشعرية من حالتها الشعرية المجازية الاستعارية. يكتب شيئاً من دون بلاغة أو أنه يحتمل بلاغة جديدة. ويحمل أحد نصوصه مثلاً عنوان "هؤلاء" المبتذل الوضيع. ويتألف هذا النص كله من شريط لغوي لا يتخطى السبع كلمات: أجلس محاطاً بكل هؤلاء الذين جعلوني وحيداً. يفتح بيضون هو - غير الميتافيزيقي. حتى في اللغة تجربته على الميتافيزيقي. يطل عليها من شرفة أخرى وضيعة ومهملة أو غير شعرية، غير أنها تقول بعداً مخفياً للكائن، لو عرف أن يحاوره لوجده كائناً ميتافيزيقياً بشكل آخر. وهنا تتهامر الثنائيات لنكتشف أن البحث الضدي عن العالم هو بحث من أجله، حتى لو قلب بيضون "الكوسموس" الميتافيزيقي الى عوالم صغيرة و"ضيقة". ف"الفلسفة" يمكن أن تتخذ شكل ضديتها ومظهر "اللافلسفة"، والعالم الذي يبدده بيضون ليس سوى عالم من نوع مغاير. وهذه هي دوماً محنة الشاعر، الذي يرفض صفة الشعر مع أنها تبقى ملازمة له رغماً عنه. فربما تبقى نزعة مضادة الشعر سمة أصيلة للشعر في تطلعه الأبدي لتحرير العالم من التشيؤ والتفاهة والصغار، وكأن البحث عن الشعري في المتشيء ليس سوى وسيلة تحريرية متطرفة للفظه والتخلص منه. واكتشاف معنى آخر لعلاقة الذات بنفسها من حيث هي ذوات مركبة، ولعلاقتها بالأشياء. والفضاء الذي تندرج فيه كتابة بيضون هو فضاء التحرر ذاك، فربما سيبقى الشعر طرداً مع سيطرة العقل التقني الأداتي وشموله أعلى أفعال الحرية.