في سن الثامنة عشرة تجليات شكلت مفترقاً في سياق حياتي، اي انها عزلت سنوات طفولتي وصباي لتدخلني في مرحلة حياة جديدة، هذه الحياة كما اتخيلها الآن وأنا في اواخر الاربعينات ظلت تحمل سمات من طيش ونزق وصخب الطفولة والصبا. وبقيت شرارات وحمولات طيفية تسم وتطاول بقية سنوات عمري اللاحقة، وتظلل بأطيافها الحلمية مساري الاجتماعي والثقافي والسياسي. نشأت في مجتمع محافظ الى حد ما، وفي عائلة شبه متدينة، لكن نزعة التمرد صاحبتني باكراً، نزعة الانعتاق من القيود الاجتماعية والانفلات من حدود العائلة وموروثها الصعب الاختراق، من هنا حاولت بشكل تدريجي وبصمت اطاحة القيود التي توارثتها عائلتي ذات الاتجاه القومي، لأختط لي مساراً مختلفاً، صاحبه قلق في القيم الثابتة: الدراسة، الوظيفة، المنحى السياسي والمنظور السلفي للقيمة الثقافية. لذلك كان سن الثامنة عشرة حاسماً في حياتي من خلال ثلاثة انساق هي: الشعر والحب والسياسة. الحب: في زقاق شعبي من اعمال تل محمد، نشأتْ مخيلتي وترعرعت افكاري الأولى، مع اولاد الزقاق وبناته. تعلمنا في المدارس الابتدائية المختلطة. وهناك امضينا الوقت معاً، طفولة صاخبة في المدرسة يصاحبها لعب اكثر صخباً داخل الزقاق في اوقات ما بعد المدرسة، وفي ايام العطل والاعياد. في الحقيقة كان الزقاق هو بيتنا الأول، فالامهات يجلسن على العتبات، والرجال منشغلون بأوقاتهم بين العمل وطاولة النرد وحين بدأنا نحن الصبيان نعي ذكورتنا غب انتقالنا الى مراحل دراسية متقدمة، اخذت الفتيات يغبن من حياتنا بالتدريج، لينزوين عبر الابواب المواربة والشبابيك المفتوحة، او لنراهن في الأصائل على السطوح، يرششنها بالماء بعد ظهيرة قائظة، ومن ثم يأخذن بفرش المخادع والشراشف والوسائد، لكي تتنعم ويمسها نسيم المساء. كان لي في الزقاق اكثر من واحدة، ارميهن بالنظرات والابتسامات ولا شيء أبعد. ولأن التقاليد كانت تقول بالبحث عن علاقة خارج الزقاق، كنا في الغالب نزور مناطق ابعد، تقع في مجال مدارسنا، ومدرستي المتوسطة كانت في منطقة بغداد الجديدة، لأحدث ولأكثر انفتاحاً من حيّنا، لأنها تجمع اثنيات متعددة. في تلك المنطقة كان في امكاننا ان نتمشى مع فتاة لمسافة قليلة. حديث ومشي ولا ثالث. ولكن، حين كانت بنات زقاقنا يسمعن بذلك يستشطن غضباً ويبيّتن شيئاً. فحين كنت اخرج في المساءات مرتدياً اجمل ما عندي، بنطالاً وقميصاً مكويين وحذاء ملمعاً، وأمرّ امام ابواب جاراتنا في الزقاق، كن يبادرن اما بصفق الابواب بوجهي، او باسدال ستائر الشبابيك، ولا تتوانى احداهن عن رمي ماء الغسيل خلال مروري لينال ما ينال من حذائي وبنطالي. من بين هاته الفتيات استطاعت احداهن ان تفوز بي، عبر مواصلتها رمي الحجارة الصغيرة عليّ وأنا نائم على السطح، في ساعات الصباح الأولى. كان سطح دارها موازياً لسطحنا، آنها كنت انهض باكراً، فاركاً عيني لأرى جارتي تضحك وتبادلني الاشارات عن موعد للقاء. ولن انسى اليوم الذي رمت فيه حجارة صغيرة اصابت رأس أمي، فأيقظتها، وما كان مني سوى ان ابادر بالصاق التهمة بجارنا صاحب برج الحمام على السطح المقابل، بحجة انه بدأ بتطيير حماماته! كنت آخذها لنمشي طويلاً ونتحدث عن مشاريع وهمية. وحين كانت الظهيرة تنال منا والتعب، كنا نلجأ الى ساقية، عند قناة الجيش. هناك ولأول مرة حاولت ان أقبلها، وما ان مسّت شفتاي شفتيها حتى تلاشت وأغمي عليها، فأصبت بالفزع والدهشة من ان يغمى على انسان من جراء قبلة. كان الماء يلامس اقدامنا، فرحت اغترف الماء وأرشّه على وجهها لاعادتها الى وضعها السابق. السياسة: في هذه الاثناء بدأ وعيي السياسي يتفتح من قراءات لاشعار تشي غيفارا وهوشي منه وماوتسي تونغ، مصحوبة بقراءات سياسية لسلامة موسى وعبدالرحمن الكواكبي ومجلات مصرية تحمل افكاراً عن اليسار والاشتراكية، لم يكن ذهني آنئذ ليستوعبها كلها. لكن مذكرات غيفارا وأشعاره هي ما بقي يدور في ذهني ويصقله بأفكار غرائبية. صادف وأنا اعمل كاتباً في احد المكاتب التجارية في ذلك الوقت، ان التقيت بشخص يعمل في مكتب تجاري مجاور، وحين كان يغيب المسؤول عن مكتبه كنا نلتقي لنتحدث عن اشياء هي اكبر منا، في الغالب عن الفقراء والثورات في العالم. كنا نعمل صباحاً ونذهب الى الثانويات لندرس ليلاً، قاطعين شوارع بغداد الجميلة، الغارقة في ليل شعبي بهي... ازقة كانت بمثابة قطع متحفية نادرة بشناشيلها وسقوفها الخشبية المتدلية وروائح اسواقها. نبدأ من سوق الشورجة المفعمة بشذى الافاوية والحبوب والبهارات، لنمر بشارع الرشيد ذي الأعمدة والأقواس الحجرية، لنصل الى الثانوية التي تقع في منطقة "الشواكة" المترعة بخصوصيات وجماليات معمارية تبعث على الدهشة. هناك في رواق المكاتب وفي خلواتها اوقات الظهيرة، فاتحني الصديق "مشعل" بمشروع لتأسيس حزب راديكالي نقوده انا وهو. صديقي كان يتكئ على حلم ثوري اكتسبه - حسب قوله - من معرفته الشخصية بعزيز الحاج. في البدء روّعت من فكرة المشروع ذاتها، فكيف بتأسيس حزب؟ لكن افكاري وصورة غيفارا الماثلة في ذهني بسيكاره وأشعاره مخترقاً ادغال بوليفيا قربتني من الفكرة، بل جعلتني ادعمها بكل جوارحي، ان لم اقل انها سيطرت على مشاعري وأحاسيسي واحتلت مساحة تفكيري. بعد ايام ذهبت اليه وقلت: "فلنبدأ"، بعد ان اطلعت على مشروعه الذي لم يكن سوى اضغاث أوهام وأحلام طوباوية مشوبة بهلوسات فتية. قال: هل لديك احد؟ أجبت: لديّ شخص واحد وهو قريبي لكني لا اثق به تماماً. قال: انا معي اخي، لكنه اصغر مني وأخشى الا يفهمنا. وأضاف: "فلنفاتحهما. آنذاك طرحت عليه خطتي للبدء بالعمل التنفيذي، فكانت الخطة ان يذهب هو الى شمال العراق وهنالك يشرع بعمله السري بين الكهوف والمرتقيات الجبلية، وبما انه كردي ففي امكانه ان يتصل بالقرى الكردية، بادئاً بالفلاحين ثم بالشغيلة الحرفيين، فارتضى بادرتي باعجاب. اما انا فسأبدأ من جنوبالعراق، من خلال مستنقعات الاهوار التي تذكر بأدغال بوليفيا، ثم تتوسع نشاطاتي الى الغرب والوسط. وفيما نحن نناقش الخطة الوهمية، دخل قريبي ففاتحناه بالفكرة، وقبل ان ننهي حديثنا معه، هجم على اوراق خطتنا ورماها ارضاً، ثم هدّد وتوعد وأزبد وهو ينضح بكلمات احتجاجية ذات طبيعة هجومية، وقال مما قال: سأشي بكما للسلطات. غير اننا لم نأبه به وبصراخه وباندفاعه المحموم، فتحديناه بدورنا، لكن، بعد ان مضت ايام وتفرق شملنا، ذبلت الفكرة من تلقاء نفسها وانطوت، لأننا كنا منشغلين بأمور عدة، على رأسها الشعر والفنون الاخرى. وكلما تذكرت تلك الأيام اضحك على حال اضعف مخلوقين في العالم في ذلك الوقت. لكنها تبقى مجرد حلم صبياني يذكرني ب "مشعل" وشعلته، ترى هل ظلت متوهجة، ام انطفأت عبر درب الآلام الطويل؟ الشعر: قبل وصولي الى سن الثامنة عشرة بدأت "قرزمة" الشعر بطريقة اعتباطية، عفوية لا ناظم لها، اكتسبتها عبر اشعار قرأتها في كتاب "الاغاني" وكتب تراثية موجوة لا اتذكر اسماء مؤلفيها، فيها اشعار ومدائح نبوية وقصائد غزل ومراث، فضلاً عن كتب شعرية عن المتنبي وعن محسن الكاظمي وعن ابي نواس. وحين بلغت الثامنة عشرة اخذت اكتب الاغاني التي تميل الى المحكية، حينها كنت التقي بصديق يغني طول الوقت ويدندن بأغان لعبدالحليم حافظ وفريد الاطرش، نصحني ان اقدم ما اكتبه للاذاعة، علّ واحدة تنجح. وما كان عليّ الا ان امسكت بنصيحة الصديق الذي كان وقتها منشداً في كورس الاذاعة ويتحين الفرص من اجل ان يصبح مطرباً، كنت اكتب اغنيات ساذجة تتشبه بالمطروح في سوق الأغنية، ومحورها لا يتعدى الفراق والحزن وغياب الحبيبة، بعدها كنت احمل بضاعتي وأنا معبأ بطاقات من الفرح والنشوة لتقديمها الى لجنة خبيرة بفحص الاغاني واختيارها. ومن مستلزمات كاتب الأغنية آنذاك ان يعرّج على "مقهى القناديل" المحاذي لمبنى الاذاعة، لكي يجلس هناك ويلتقي المغنين والملحنين. وبالفعل لم انكث بهذه المتطلبات، يدفعني شعور بالزهو لملاقاة صديقي المنشد في الكورس، ومحادثته عما كتبت، فيتناول بيتاً من الأغنية ويبدأ بدندنة هي خليط من لحن وغناء. وكنت ادهش لسليقته ولوجهه البسّام الذي كان يرد على تحايا الملحنين وكتّاب الاغنية. وقد يصادف ان يأتي مطرب له سمعة معينة، فيفرح ايما فرح بسلامه او اقباله عليه، وبدوري كنت اعجب لوجود المطربين وهم بين قائم وجالس، لكثرة انشغالهم بمواعيد حفلاتهم التي لا تنتهي. وهنا ظهرت طقوس جديدة في حياتي، هي تعاطي الدخان والشراب، على اساس انها من مقتضيات الرجولة، ومن ثمّ لا بد من الذهاب الى الحانات المبعثرة على كورنيش النهر لغرض احتساء الشراب ومناقشة ما يطرأ من جديد في مجال الاغنية، فأحس عبر النقاش الحميمي اني امتلأت حماسة ونشاطاً، فاذهب في الصباح الباكر للاطلاع على لائحة في مكتب استعلامات الاذاعة تحمل الاسماء المقبولة والمرفوضة، وكنت دائماً اجد اسمي على لائحة المرفوضين، حتى مللت الأمر وتناسيت ما كان ينتابني من الم وحزن، ومن غضب على رئيس اللجنة ومؤلف الأغاني الشاعر محمد هاشم. وبينما انا جالس في احد ايام آذار مارس، حزيناً وشارداً، لا املك، على ما اذكر، حتى ثمن كأس الشاي وفطور صباحي زهيد، جاءني الصديق، منشد الكورس ليخبرني بقبول اغنية لي. لم اصدق في البداية، وظننت الامر ملحة او طرفة من طرفه. وقتها نقدني الصديق المنشد ديناراً وقال: على الحساب. صدمتني الفرحة وتوردت مهجتي لهذا الخبر المثير، وأردف الصديق: سأختار كل اغانيك لأغنيها عندما اصبح مطرباً محترفاً، لكن صديقي ظل، على ما يبدو، حتى وقت متأخر منشداً في كورس. هاشم شفيق شاعر عراقي