منذ مؤتمر مدريد الى الآن، يمكن القول ان ثمة نظرية قد حكمت مسيرة التسوية على المسار الفلسطيني من دون ادنى شذوذ يذكر. وتتلخص تلك النظرية في ان كل مرحلة هي أسوأ من التي قبلها، وان التطبيق على الأرض كان دائماً أسوأ من النصوص رغم كارثيتها في نظر معارضي "اوسلو"، او سوئها وكونها نتاجاً لميزان قوى مختل، في نظر المؤيدين وقت التوقيع، او قبل ذلك اثناء بداية الترويج للقبول به. وبالطبع، فان هذه النظرية ستنطبق ايضاً على الاتفاق الاخير في "واي بلانتيشن". في سياق الترويج لأوسلو، حضرت "نظرية الفاكهاني"، الشهيرة حيث كان السيد ياسر عرفات وقيادة "فتح" يتحكمون من "الفاكهاني" بكل لبنان، او هكذا يعتقدون على الأقل. ولعل ترويج "نظرية الفاكهاني" كان يهدف الى سحب التجربة على اوسلو، فالحضور على الأرض، حسب القادة إياهم سيفرض تمددهم عليها واقعاً لا مناص منه، ومع الوقت سيبلغ التمدد مداه بحيث تحضر الدولة بكامل هيكليتها. كانوا يعتقدون انهم سيلقون بما لديهم من اوراق هشة على الطاولة واحدة تلو الاخرى في سياق انتزاع تنازلات من الطرف الاسرائيلي. اما على الأرض وفي الواقع الأمني والسياسي فهم يشكلون حلماً يكبر دون توقف، ويمكنه في النهاية ان يحصل على كل ما رسم لنفسه في حدود الدولة المقامة على الأراضي المحتلة عام 67. ولعل ذلك هو سر المغامرة بترحيل القدس واللاجئين والمستوطنات والمياه والسيادة الى مفاوضات الحل النهائي. فهنا ثمة اعتقاد بأن الوقائع الجديدة ستفرض على الاسرائيليين التعامل مع واقع دولة تتشكل بجوارهم، واعطائها كل ما يلزمها لذلك. هل ثمة حسن ظن اكثر من ذلك في قراءة احلام الموقعين على اوسلو؟! بعد مضي خمس سنوات على اوسلو يمكن القول ان فضيحة نظرية الفاكهاني قد باتت على رؤوس الاشهاد. فالدولة هنا ليست لبنان، بل هي "الدولة العبرية" التي لا تملك القوة الامنية والعسكرية الراسخة فحسب، بل تملك القدرة على الحشد الدولي من خلال سيطرة انصارها على القرار السياسي في الدولة الأهم عالمياً. ومن هنا فالوضع جد مختلف. ثم ان تلك الدولة تملك ميزة اخرى، تتمثل في معرفتها التامة بطبيعة خصمها السياسي والأمني. فالجاسوس عدنان ياسين في تونس لم يكن وحيداً، والاختراقات كانت تتمدد على كل المستويات، والجهاز الاستخباراتي الصهيوني مطّلع على كل شيء، ويضع الجهاز السياسي في صورة تفاصيله الدقيقة، والتحرك لا يأخذ في الحسبان الصورة الخارجية، وانما يغوص في البنية الداخلية للطرف الآخر، ويتحرك وفق كم هائل من المعلومات، وعلى درجة عالية من الدقة. في ضوء ميزان القوى المشار اليه حيث دولة في مواجهة ثورة شاخت وشاخ قادتها وحضرت في ابنيتها ثقافة البزنس بدل ثقافة الشهادة. في ظل ذلك جاء تطبيق النصوص على الأرض، وبشكل دائم لصالح الطرف الصهيوني، ولم يتوقف الأمر عند حدود ذلك التطبيق المشوّه للنصوص، وإنما تجاوزها الى عملية بالغة الخطورة تتمثل في ابتزاز الطرف الفلسطيني حتى الثمالة، ليس وهو يقترب من حدود القدس او يفاوض على اللاجئين والسيادة، وانما قبل ذلك، اذ حدث ذلك وهو ما يزال مجرد سلطة بلدية على 60 في المئة من قطاع غزة و3 في المئة من مساحة الضفة الغربية كمنطقة أ، و24 في المئة كسلطة مدنية فقط. وهو ما تأكد في "واي بلانتيشن". لقد جاء الاتفاق الانتقالي الجديد حول اعادة الانتشار في 13 في المئة من مساحة الضفة الغربية ليفضح حدود اللعبة وبرنامجها من حيث اعاد التأكيد على مقولات طرحها عند توقيع "اوسلو" عدد من معارضيه، وتم تجاهلها لاحقاً. وأهم تلك المقولات ان الاتفاق اتفاق أمني بالدرجة الأولى. في الاتفاق الانتقالي الجديد تأكد البعد الأمني للعلاقة بين السلطة الفلسطينية وسلطات الاحتلال. فقد بدأ الحديث يتجاوز الجهاز العسكري لپ"حماس" الذي انهكته ضربات السلطة بحثاً عن رضا نتانياهو والاشراف الاستخباري الاميركي، وليصل الجهاز السياسي والاجتماعي. ويا ليته توقف عند ذلك ايضاً، فقد وصل حد التحدث عن "لجان التحريض" وهي لجان ستبحث في ما تبثه الاذاعة الفلسطينيون وما تكتبه الصحف الفلسطينية، وما يقوله القادة الفلسطينية في الاحتفالات، لفحص ما اذا كان كل شيء منسجماً مع اجواء التسوية ام لا!! كل ذلك الى جانب الغاء فقرات من الميثاق وما شابه تؤكد ان المطولب هو شطب الذاكرة الفلسطينية ومصادرة حتى الاحلام، والثمن هو مزيد من تخليص الاحتلال من عبء ادارة السكان، وتأكيد الواقع القائم على تفتيت الضفة الغربية الى جزر معزولة تنتشر حواجز الاحتلال خلالها كما السوس الذي ينخر الجسد. عند هذه النقطة او عند هذا المنعطف تتبدى الصورة المأسوية لعلاقة السلطة الفلسطينية بالحركة الأهم في الشارع الفلسطيني، وهي حركة "حماس". وتتلخص تلك الصورة في نظرية التناقض الذي لا حل له بين الطرفين. فهنا لم يعد بالامكان تكرار الاحاديث السابقة عن التعايش بين برنامجين متناقضين، وان بامكان السلطة ان توظف وجود "حماس" وربما مقاومتها كورقة من الاوراق الضاغطة على سلطات الاحتلال لتقديم التنازلات. كان في اعتقاد السلطة ان وتيرة الضغط على "حماس" يمكن ان تتناسب طردياً مع حجم التنازلات المقدمة من الطرف الآخر، غير ان واقع الحال كان خلاف ذلك. فالضربات الضخمة للجهاز العسكري لپ"حماس" لم يقابلها من نتانياهو سوى النكران. والاصرار على الاذلال وجعل الپ3 في المئة قضية القضايا، رغم ان الجولة الثانية من اعادة الانتشار كان ينبغي ان تكون 40 في المئة حسب اوسلو، وليس 13 في المئة حسب المبادرة الاميركية. الآن تكتشف السلطة ان عليها ان تسحق الجهاز العسكري لحماس وتشرع في المطاردة العملية والواسعة للجهاز السياسي قبل الدخول في مفاوضات الوضع النهائي وملفاتها الأعقد. وهو ما وقعت عليه في "واي بلانتيشن". في ضوء ذلك كله يمكن القول ان صورة الواقع على الأرض باتت تؤكد نظرية التناقض المشار اليها. فمن زاوية السلطة اصبح هناك اعتقاد لا شك فيه بأن "حماس" ومقاومتها هي النقيض لتمدد السلطة وأحلام الدولة. ومع الوقت لم يعد الشعور بذنب المطاردة لرموز المقاومة وارداً، وكأن لسان الحال يقول: "اذا كنا قد دفعنا عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى لقاء الدولة الموعودة فلماذا لا نضيف اليهم عدداً محدوداً من الشهداء، وبضعة مئات حتى آلاف من المعتقلين الذين يتوفر امثالهم في اي دولة في العالم الثالث؟! بالمقابل هناك "حماس" التي تملك رؤية اخرى. فهي حركة وضعت المقاومة جزء من اسمها، وهذا يلزمها ابتداءاً بالاستمرار في تلك المقاومة ان ارادت ان تبقى على مصداقيتها. غير ان الامر ليس منحصراً في هذا الاطار. فلو توقفت "حماس" عن المقاومة بعد التأكد من عدم توفر الظروف الموضوعية لذلك، وانسداد الافق تماماً لعذرها الناس، غير ان الامر ليس كذلك، سواء لجهة مبررات استمرار المقاومة، ام لجهة الظروف المناسبة لذلك. فعلى الصعيد الأول، هناك مبررات لا حصر لها لاستمرار المقاومة، ويكفي ان القدس ما تزال محتلة. ولم تتحقق دولة ولا سيادة، وآلاف المعتقلين في السجون. اما الظروف المناسبة فهي لم تختف تماماً، رغم صعوبتها، ويكفي ان المقاومة ما تزال تمتلك شرعيتها العربية، واستقبال الشيخ ياسين في اكثر من عاصمة عربية خير شاهد على ذلك. في المجمل، فإن "حماس" قد تعجز في يوم ما عن المقاومة، غير ان ذلك لا يمكن ان يدفعها الى اسقاطها من البرنامج، خصوصاً وان المنطلق الذي قامت عليه هو الحرب مع مشروع صهيوني يستهدف الأمة جمعاء، والعمل كرأس حربة لهذه الأمة في المواجهة. لذلك كله فإن التناقض لا حل له. فالسلطة ستواصل الخضوع للاملاءات ولما وقعت عليه بمطاردة "حماس" بحثاً عن دولة موعودة، اما "حماس" فستبقى مصرّة على خيارها، راضية بالتضحية لأجله. وسيبقى هذا الوضع قائماً الى زمن من الصعب الجزم بمداه، غير ان انتهاءه مرتبط بإيجاد حالة يقين فلسطينية وعربية واسلامية بأن المواجهة والمواجهة فقط هي الحل مع المشروع الصهيوني. * كاتب سياسي فلسطيني، عمان.