اولئك الذين انتقدوا الاتفاق الفلسطيني - الاسرائيلي الاخير الذي وقّع في 23 تشرين الاول اكتوبر الماضي في "واي ريفر بلانتيشن" لأنه مجحف بحق الفلسطينيين، كانوا على صواب، لكنهم حسب ما يبدو لي اغفلوا المسألة الاساسية. فهناك، بالطبع، الكثير مما يُنتقد في مذكرة الاتفاق التي تتضمن جوانب سلبية عديدة بالنسبة الى الفلسطينيين. بالاضافة الى ذلك، لا تزال الكثير من التفاصيل غير واضحة او مشوشة او غير معروفة. على سبيل المثال، نجهل التفاصيل الدقيقة لعملية الانسحاب الاسرائيلية. يُقال لنا ان اسرائيل وافقت على الانسحاب من 2،27 في المئة من الاراضي الفلسطينية. لكن هذه النسبة تُحسب بالاستناد الى التقسيم المربك للاراضي الى مناطق "أ" و "ب" و "ج"، وفق ما نص عليه اتفاق اوسلو. هكذا، ستنسحب اسرائيل من 13 في المئة من منطقتي "أ" و "ب"، وستُنقل 1 في المئة من المنطقة "ج" التي تخضع لسيطرة اسرائيل حالياً الى المنطقة "أ" الخاضعة لسيطرة الفلسطينيين و 12 في المئة من المنطقة "ج" الى المنطقة "ب" تحت سيطرة مشتركة فلسطينية/اسرائيلية. لكن 3 في المئة من الاخير ستكون "محمية طبيعية" تحت السيطرة الامنية الكاملة لاسرائيل ولا يمكن ان تُستخدم لاغراض البناء او الزراعة. بالاضافة الى ذلك، ستنسحب اسرائيل من 2،14 في المئة من المنطقة "ج" التي ستُنقل الى المنطقة "أ". تبعاً لذلك، اذا تمت هذه الانسحابات فعلاً، ستشكل الاراضي التي ستخضع لسيطرة الفلسطينيين بشكل جزئي أو كامل نسبة 40 في المئة من الضفة الغربية. انها لمفارقة كبيرة حقاً الاّ تزيد هذه المنطقة، عندما تُضاف اليها نسبة 60 في المئة من غزة التي يسيطر عليها الفلسطينيون حالياً، عن 6 في المئة فقط من المساحة الكلية لفلسطين عندما كانت تحت الانتداب. وهو بالضبط عكس ما كانت عليه الحال في 1948 عندما كان الصهاينة لا يملكون سوى 6 في المئة من فلسطين! وحتى اذا استطاع المرء ان يستوعب تعقيدات هذا التقسيم للاراضي الذي يشبه احجية الصور المقطوعة، ليس واضحاً ما هي قطع الارض التي تنوي اسرائيل الانسحاب منها. وشكت القيادة الفلسطينية خلال اجتماع واي بلانتيشن من عدم وجود اي خرائط لتوضيح قضية الارض، كما يبدو ان الجانب الاميركي لم يطلع على أي خرائط. وفي 6 تشرين الثاني نوفمبر الجاري، أي بعد اسبوعين على توقيع المذكرة، اعلنت الاذاعة الاسرائيلية ان خرائط الانسحاب ستعرض للمرة الاولى على الحكومة الاسرائيلية في اجتماع عُقد للتصديق على مذكرة "واي". ولا نعرف حتى الآن اذا كانت عملية الانسحاب ستترك الاراضي الفلسطينية متلاصقة لتكون إقامة دولة فلسطينية امراً ممكناً، او انها ستؤدي فقط، كما يعتقد الدكتور جاد اسحق من "معهد الابحاث التطبيقية الفلسطيني" في بيت لحم، الى توسيع الكانتونات الفلسطينية القائمة، مثل طبقة زينة على كعكة، وبقاء هذه المناطق منفصلة عن بعضها البعض. ولا تتضمن المذكرة اي بنود تتعلق بعملية انسحاب اخرى، ولنا ان نفترض ان الانسحابات التي عرضها الاسرائيليون قد تكون الاخيرة. يتعلق الجانب السلبي الآخر في الاتفاق ببنوده الامنية التي تمثل بشكل واضح موضوعه الرئيسي. فهي تشمل ما لا يقل عن 19 من فقراته ال 36. وتقضي هذه عملياً ان تحوّل السلطة الفلسطينية اراضيها الى دولة بوليسية، تتولى ضبط الشؤون الامنية لشعبها تحت اشراف دقيق مباشر من قبل وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية "سي آي أي" التي اوكل اليها بموجب المذكرة دور الحكم والوسيط النزيه بين اسرائيل والفلسطينيين - وذلك على رغم سجلها الذي يحفل على امتداد 30 سنة باعمال التخريب والاغتيال السياسي والعداوة المتأصلة تجاه كل حركة مقاومة شعبية. يتعيّن على السلطة الفلسطينية ان تمنع اعمال العنف والعنف المحتمل وكذلك التحريض على العنف، اياً كان ما يعنيه ذلك. ونحن نجهل بالطبع التفاصيل المتعلقة بكيفية القيام بذلك او ما هي التقنيات التي ستُستخدم للتجسس على اشخاص والضغط عليهم ليخون أحدهم الاخر. لكن لنا ان نتوقع ان تكون الاجراءات التي ستُتخذ للتجاوب مع هذه الاجندة مروّعة. وعلى نحو مماثل، لا نعرف من سيقرر ما الذي يمثل "ارهاباً" وما الذي يمكن ان يسمى مقاومة مشروعة، لكن يمكن ان نتخيّل ان تقرير هذا الامر سيرجع ايضاً الى ال "سي آي أي" / اسرائيل. ولدينا بالفعل مؤشر الى ما ستعنيه الترتيبات الامنية الجديدة للفلسطينيين، ويتمثل في موجة الاعتقالات التي جرت في 23 و 24 تشرين الاول اكتوبر الماضي. فقد اُعتقل 300 من نشطاء حركة "حماس" ووضع زعيمها الشيخ احمد ياسين قيد الاقامة الجبرية واُحتجز 11 صحافياً كانوا ينتظرون امام منزل الشيخ لتغطية نتائج اتفاق "واي". وفي 25 تشرين الاول اكتوبر، اطلقت قوات الامن الفلسطينية النار على وسيم الطريفي الذي يبلغ عمره 16 سنة في غارة على مكاتب حركة "فتح" في رام الله. لكن رغم الحماسة التي ابدتها السلطة الفلسطينية في تطبيق اتفاق "واي"، لم يتخذ المفاوضون الاسرائيليون موقفاً مماثلاً. فهم حتى هذه اللحظة لم يصدقوا الاتفاق لدى الحكومة الاسرائيلية. هذه كلها مسائل جدية وسلبيات واضحة في مذكرة "واي"، لكن لا يوجد اطلاقاً اي شيء مفاجىء في السيناريو الحالي. فمنذ المواقع الاولية التي تبناها كلا الطرفين في اتفاق اوسلو عام 1993، الذي جرى القبول فيه بعدم تكافؤ اساسي في القوى بين الاثنين كأساس معقول لمفاوضات السلام، نشأ ضمناً مسلسل قاد الى الوضع الحالي. فمذكرة "واي بلانتيشن" هي النتيجة المنطقية لعملية اعتمدت كلياً على حسن نيات الطرف الاقوى، اسرائيل، لتحقيق نتائج. ولأن عملية اوسلو استبعدت مشاركة مؤسسات محايدة، مثل الاممالمتحدة، وقبلت التحكيم من لاعب خارجي واحد فقط هو الولاياتالمتحدة جرى التظاهر وقتها بالترحيب بمشاركة روسيا، لكنها اختفت من المشهد، التي انحازت بقوة الى جانب اسرائيل، كان متوقعاً ان تفضي الى وضع غير مؤاتٍ اطلاقاً للطرف الاضعف، الفلسطينيين. وهذا ما حدث فعلاً. فالمفاوضون الفلسطينيون، الذين وقعوا في شَرَك نُصب اولاً في اوسلو، لا يملكون اي خيار سوى الاستمرار على الدرب نفسه، محاولين الالتزام بالاتفاقات التي اُبرمت في 1993 وفي فترات لاحقة. وتمكنت اسرائيل، بفضل تفوقها المزدوج، لكونها الطرف الاقوى وتمتعها ايضاً بدعم الولاياتالمتحدة، من تحويل عملية السلام في اتجاه مطالبها. ويمكن رؤية النتائج المترتبة على ذلك في بنود مذكرة "واي" التي نجحت فيها اسرائيل، مقابل الوعد بأدنى تنازل عن الاراضي، ب "أمركة" عملية اوسلو لتصبح الولاياتالمتحدة الضامن لحسن سلوك الفلسطينيين. والولاياتالمتحدة هي ايضاً الضامن لبقاء اسرائيل، كما تجلى اخيراً في اتفاق الدفاع الموقع بين البلدين وهو امر عارضته دائماً الادارات الاميركية السابقة. وبما ان الولاياتالمتحدة لا تستطيع ان تمارس ضغوطاً على اسرائيل، واكدت علناً انها لن تفعل ذلك، فإن هذا يعني بالتأكيد ان أي تنازلات اضافية في المستقبل يجب ان تأتي من الجانب الفلسطيني. اصبح الفلسطينيون بالتالي محشورين بين قوتين كبيرتين - اسرائيل واميركا - وسيتعيّن على اي مقاومة فلسطينية تظهر الى حيز الوجود ان تكافح اسرائيل والولاياتالمتحدة على السواء. هكذا نصل الى ما يبدو لي أنه أهم قضية تثيرها مذكرة "واي": ماذا تتضمن حول القضية الشاملة المتعلقة بحقوق الفلسطينيين: تقرير المصير والعودة وإعادة اللاجئين الى وطنهم؟ هل يستطيع هذا الاتفاق الذي يجري فيه التقاتل على نسب مئوية ضئيلة من الاراضي ان يقدم حلاً لهذه المشاكل الاكبر؟ واضح انه ليس في امكان مذكرة "واي" ولا اتفاقات اوسلو قبلها ان تعطي دولة فلسطينية تملك مقومات البقاء. ولن يمكن لهذه الدولة، حتى في ظل حكومة اسرائيلية يقودها حزب العمل، ان تضم اكثر من 6 في المئة مساحة فلسطين الاصلية تحت الانتداب وستكون مجزأة الى كانتونات مفصولة عن بعضها بعضاً بحدود تتولى ادارتها امنياً اسرائيل. وستتواصل عملية الاستيطان الاسرائيلية في الاراضي الفلسطينية، التي لم يجرِ التصدي لها في مفاوضات "واي ريفر"، بالاضافة الى تهويد القدس الذي لم يُثر على نحو مماثل في المفاوضات. لم يُذكر اي شيء عن اللاجئين، وتشير التقارير الاخيرة الى ان اجتماعات سرية جرت بين ممثلين اسرائيليين وفلسطينيين في محاولة لتصفية مشكلة اللاجئين عبر عملية توطين محلية وتشتيتهم على بلدان اخرى. تتعلق المشكلة الحقيقية في اتفاق "واي" اذاً بمسألة من يتحدث باسم الشعب الفلسطيني كله. لقد خلق اتفاق اوسلو افتراضاً ضمنياً بأن المفاوضين الفلسطينيين المشاركين في العملية يمثلون مجموع الشعب الفلسطيني. وعزّز هذا الافتراض انتخاب المجلس التشريعي الفلسطيني في 1996، اذ اصبحت السلطة الفلسطينية منذ ذلك الحين ممثل الشعب الفلسطيني كأمر واقع. ويرتبط هذا من دون شك بالخلط خطأً بين منصبي رئىس منظمة التحرير الفلسطينية ورئىس السلطة الفلسطينية، اللذين يحتل كلاهما ياسر عرفات. في الواقع، لا يمكن الاّ للمجلس الوطني الفلسطيني وحده ان يمثل الشعب الفلسطيني كله، ولم يمارس هذا الاخير مهماته كما ينبغي منذ اتفاق اوسلو. في غضون ذلك، لا يمكن أي جهاز أن يدعي التحدث بالنيابة عن الفلسطينيين ككل. يكمن الخطر الحقيقي اذاً لمذكرة "واي" وأي اتفاقات مماثلة يجري التوصل اليها في وقت لاحق، بالطبع في افتراضها بأن الاتفاقات التي اُبرمت ملزمة لكل الفلسطينيين. وفي الوقت الذي يمكن فيه لكثيرين ان ينتقدوا حصيلة هذه المفاوضات، يمكن المجادلة بأنه يحق للمفاوضين الفلسطينيين ان يتخذوا مثل هذه القرارات طالما كانت تتعلق بقضايا تدخل ضمن نطاق صلاحيات السلطة الفلسطينية. لكن اذا كانت القضايا التي يجري بحثها تمس الحقوق القومية الفلسطينية او يمكن ان تلحق بها الضرر، فإن ذلك سيتخطى حدود صلاحيات السلطة الفلسطينية التي لا تملك تفويضاً لاتخاذ قرار في شأنها. فالقيام بهذا الدور يرجع في هذه الحالة الى مؤسسة وطنية فلسطينية. ومن نافلة القول ان هذه القطيعة بين منظمة التحرير الفلسطينية، الجهاز التمثيلي القديم للفلسطينيين، والسلطة الفلسطينية، الممثل الجديد للاراضي المحتلة، هي واحدة من اكبر انجازات اتفاق اوسلو. ومع ذلك، فالحقيقة هي ان الفلسطينيين في كل مكان لم يفعلوا شيئاً لتغيير هذا النمط وتخلّوا بذلك عن مسؤوليتهم الوطنية. فهم قانعون، حسب ما يبدو، بأن يقفوا كمتفرجين فحسب ويراقبوا عاجزين بينما يجري التفريط بحقوقهم. واذا كان سيوضع حد لهذا الامر، واذا كانت القضية الفلسطينية التي تستند الى القانون والعدالة الطبيعية ستُسترد من رماد اوسلو، فإنه ينبغي عندئذ للفلسطينيين ان يتولوا شؤونهم بأنفسهم. يجب ان يفعلوا ذلك عبر مؤسساتهم الوطنية ذاتها، إما باحياء تلك القائمة بالفعل او، اذا اقتضى الامر، بانشاء مؤسسات جديدة. يمكن ان تكون نقطة الانطلاق الجديدة الاجتماع المقبل للمجلس الوطني الفلسطيني في غزة للتصديق على الغاء فقرات الميثاق الوطني الفلسطيني وفقاً لما طالبت به اسرائيل في اجتماع "واي". وينبغي ان يكون الواجب الوطني لكل عضو ان يرفض تلك الدعوة ويفضح زيف اتفاق يقوم على الرياء والتجبّر والظلم. * كاتبة واكاديمية فلسطينية تعيش في لندن