منذ أزمة شباط فبراير التي تمكن الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان من تسويتها بمذكرة تفاهم مع بغداد، وضعت الإدارة الأميركية في الاعتبار أن سماح دول خليجية للولايات المتحدة باستخدام أراضيها في توجيه ضربة عسكرية للعراق بات مشكوكاً فيه، بسبب عوامل عدة. منها مثلاً عدم اقتناع دول المنطقة بأن الضربة ستسقط احتمالات تجدد المواجهة في أي وقت، وسترغم النظام العراقي على الإذعان لكل مطالب فرق التفتيش، مرة واحدة نهائية. ضاعفت واشنطن قوتها الصاروخية في مياه الخليج لتكون قادرة على توجيه أي ضربة من القطع البحرية. وحين سعت إلى حشد التأييد الخليجي لهذه الخطوة، من خلال جولة وزير الدفاع وليام كوهين، أوحت بأن دول المنطقة تؤيد أي اجراء في المواجهة الحالية مع العراق، بما في ذلك العمل العسكري. والواقع مغاير كما بدا في مواقف معلنة لبعض هذه الدول، مما يطرح تساؤلات حول مصلحة أميركا في احراج الأصدقاء، وحول حماقة السياسة الأميركية التي تتوقع كل مرة حماسة عربية تلقائية لضرب العراق، وكأن خطأ القطيعة مع فرق التفتيش الدولي يوازي خطيئة غزو الكويت. لن تكون إدارة كلينتون بحاجة إلى تأييد عربي صريح للضربة المحتملة، وفي يدها قرار مجلس الأمن الرقم 1205، أما الانقسام في المجلس على تفسير القرار - بعد لحظات على صدوره - وهل يعطي الضوء الأخضر تلقائياً لمعاقبة العراق عسكرياً، فليس سابقة. ولن يكون مفاجئاً ان تتجاوز الإدارة التحفظات الفرنسية عن هذا العمل، وكذلك معارضة روسيا الضربة والتي باتت ورقة تلويحها بالفيتو تشبه شيكاً من دون رصيد. موسكو لن تلبث ان تذعن للخيار الأميركي، إلا إذا اطلق رئيس الوزراء يفغيني بريماكوف، الخبير في الملف العراقي، مبادرة باتجاه بغداد تحفظ لها ماء الوجه، فتتراجع مرة أخرى في ربع الساعة الأخير. واللافت كما في كل أزمة مع العراق هو حماسة بريطانيا التي تزايد على التشدد الأميركي، فتضعف التحفظ الفرنسي عن خيار القوة، واحتمالات البدء في البحث عن استراتيجية بديلة للتعامل مع بغداد، في شكل يمكّن بالفعل من بدء العد العكسي لاغلاق ملفات التسلح، وبالتالي مسيرة رفع الحظر، باتجاه آخر النفق. والشكوك في النيات العراقية مبررة، لا سبيل لإزالتها بسهولة، كما هي في النيات الأميركية واسلوب عمل رئيس لجنة نزع الأسلحة ريتشارد بتلر، الذي كان أقر بتعذر امكانات التحقق مئة في المئة من "تنظيف" ترسانة العراق. إذاً، التحقق النهائي مستحيل والشكوك باقية. إنها عقدة الحلقة المفقودة في قرارات مجلس الأمن، خصوصاً القرار 687 الذي تضمن شروط وقف النار في حرب الخليج من دون أن يحدد ما هي المعايير التي ستثبت في شكل قاطع خلو الترسانة العراقية من الأسلحة المحظورة. فالمتهم لا يمكن الاعتماد على صدقه فقط، إذا صدق، وبتلر الذي تعتبره بغداد عميلاً للاستخبارات المركزية الأميركية، لم يعد قادراً على إقناع أحد بأن لجنته تمتلك من الكفاءة والخبرة ما يتيح لها يوماً أن تتأكد من "براءة" القيادة العراقية، ولو صدقت.