دفع اوبريت "الحلم العربي" الذي كتبه مدحت العدل ولحّنه حلمي بكر وصلاح الشرنوبي وأداه عدد من المطربين والمطربات العرب، دفع كثيرين من ابناء العروبة المقذوفين على مساحة الجغرافيا الممتدة من الماء الى الماء، الى الاحساس بأن حلم الوحدة العربية صار قاب قوسين او ادنى من التحقق، وغدا بمقدور العربي ان يتجول في سائر اصقاع "الوطن" العربي بلا حواجز ولا اجهزة رقابة وتفتيش وتنقيب عما هو مستقر في العقل او في الفؤاد. عاش كثيرون، وهم يستمعون الى النشيد الغنائي الوحدوي، لحظات رومانسية اعادت لذكرياتهم زمن السنين الغابرة يوم كان العربي فيها يذرع الصحراء العربية، ويتوغل في الفيافي، ويجالس النخيل، ويصغي لايقاع البحر دون ان تشهر في وجهه اجهزة الجمارك لوائحها وتدعوه ان يبحث في عباءته عن جواز سفره. قضى اليعربيون لحظات سعادة وهناءة سرعان ما ذوت امام احداثيات الواقع، ومتطلباته الوعرة، اذ ان النشيد الوحدوي رهن بوقائع ليس بمقدور الغناء ولا مطربيه وليس بمقدور المواطن العربي الفرد الأعزل إلاّ من قلقه وسأمه، وليس بمقدور المثقف المهمش الذي اختار الاستقالة من دوره التاريخي، ليس بمقدور هؤلاء ان يجعلوا النشيد اكثر من احاسيس تدغدغ الوجدان وتبعث القشعريرة في البدن، وتشعل في الروح الذكريات. وحتى لا نغرق في حمى الشعار الذي دأبت على لوكه الادبيات السياسية والحزبية طوال اكثر من نصف قرن، دعونا نتابع حيثيات "الحلم العربي" يوم شاء "منظموه" ان ينقلوه من برودة الاستوديو الى حمى الشارع وحرارته، فاختاروا لتحقيق ذلك ساحة الشهداء في العاصمة اللبنانية بيروت، حيث تجمع ما يزيد عن مائة الف مواطن عربي استغرقوا في الهتاف للوحدة العربية وتشابكت ايديهم، وصاروا يدبكون للمجد العربي التليد مطلقين زغاريد اخترقت عنان السماء. في غضون ذلك كان المطرب الكويتي نبيل شعيل ينفذ تهديده بالغياب احتجاجاً على وجود المطرب العراقي كاظم الساهر، وشرعت اجهزة الاعلام الكويتية في حملة تنديد بالمشاركة العراقية في "مزاد" الحلم العربي، كأنما يراد، بحسب الرواية الكويتية، ان يتحقق الحلم العربي بمنأى عن العراق، باعتبار هذا البلد وشعبه الذي يربو على العشرين مليون عربي ليسوا إلاّ اعداء يتعين القاؤهم في البحر، وتركهم فرائس للحيتان واسماك القرش! هكذا يتجلى الحلم العربي بأبدع ما يكون. وهكذا يكتسي النشيد لحماً ودماً ويغدو كائناً يمشي على قدمين ويتجول في الشوارع العربية بلا حسيب ولا رقيب. فاذا كان المغنون العرب الذين يدشنون حلم الوحدة غير قادرين على تمثل هذه الوحدة ولو لمدة نصف ساعة فكيف نترك لأرواحنا العنان ان تعيش حلماً هو اقرب الى الكوابيس او اضغاث الاحلام، هو في اروع حالاته لا يتجاوز ان يكون حلم يقظة منعشاً يقضي المرء برهة من زمنه العصيب في تلافيف الوانه السحرية المزوّقة، ثم ما يلبث ان يرتطم بالواقع القاسي الذي يشهر انيابه في لحم الروح، ويجعل الوجدان نهباً للاحتقان والأرق… وربما للجنون. ولو ان اشعار الوحدة واغنياتها وافلامها وكتبها وتنظيراتها حققت شيئاً لكُنّا الآن في ركب الامم المرهوبة الكبرى. ولكننا غارقون في مستنقع التشرذم والتردي، نعيش ازمنة التحشيش الفكري، ويطلع بين الفينة والفينة من يخدّرنا بشعارات وبطولات وفتوحات مزعومة كان آخرها "اوبريت الحلم العري" الذي عدنا بعده الى حضيض المرارة والسأم