الكتاب: الإسلام والعصر ... تحديات وآفاق المؤلف: محمد سعيد رمضان البوطي، طيب التزيني الناشر: دار الفكر - دمشق 1998 تسعى دار الفكر منذ بداية العام الى صياغة شكل فكري لبعض اصداراتها، حيث تحاول طرح مواضيع اشكالية بقالب حواري يتضمن رأيين يظهران للوهلة الأولى على طرفي نقيض، لكن هذا المشروع يطمح لجعل الحوار وسيلة تفاعل نحو فهم أوضح لمشكلات عصرنا. يعيدنا هذا الأسلوب لبدايات القرن عندما لعبت الصحافة وخصوصاً في مصر دوراً مشابهاً، فكانت مسائل النهضة مجال جدل واسع على صفحات جرائد ساعدت الفكر العربي بشكل عام على دخول العصر، وليس مستغرباً استعادة هذه التشابكات وفق سلسلة "حوارات لقرن جديد"، ضمن السعي لإعادة الأجواء الصحية لقضايا التراث والمعاصرة بعد أن عصفت بها التعصبات الإيديولوجية فترة طويلة. والكتاب الذي جاء بعنوان "الإسلام والعصر... تحديات وآفاق" يسترجع الخطوط العامة لتفاوت النظريات المعرفية التي ظهرت منذ بداية عصر النهضة، فلا يصبح الخلاف أو الاتفاق هو المهم بل طريقة التعامل مع المسألة موضوع النقاش، ومشاركة الدكتور محمد رمضان البوطي والدكتور طيب التزيني في الحوار جاءت ضمن هذا السياق. فالتاريخ الذي يظهر عند البوطي عبر صور وجدانية مدعومة بأساليب النقل المعرفي، نجد التزيني يحاول تسريب منهج عقلي مع حضور واضح لثوابت معرفية نقلية. إن الحوار المطروح في هذا الكتاب ليس بعيداً عن النقاشات التي شارك فيها البوطي والتزيني لفترة طويلة. فالساحة الثقافية السورية شهدت جدالات كثيرة بينهما على شاشة التلفزيون وفي أروقة جامعة دمشق، فكان البوطي وهو من أشهر رجال الفكر الديني في سورية يقدم وجهات نظر الإسلام في القضايا المطروحة، بينما طرح التزيني موقف الفكر الوضعي بما يحويه من فلسفة وآراء، والكتاب لا يخرج عن هذا الإطار فالقسم الأول يحوي مداخلة للبوطي حاول فيها رسم موقع للإسلام داخل التحديات المعاصرة ثم نجد في النهاية تعقيباً للتزيني. والمداخلة تبدأ بتفصيل مصطلحين هما "الإسلام" و"النظام الإسلامي"، ويرى البوطي أن ضرورة فصل هذين المصطلحين نشأت منذ النصف الثاني من القرن الحالي، عندما أخذت بعض الأنشطة الإسلامية تركّز عند الحديث عن الإسلام على أنظمته وأحكامه الاجتماعية والاقتصادية التطبيقية، فوجهت الجهود والطاقات للعمل على إزاحة الأنظمة والأحكام القائمة والوقوف في وجه الأنظمة والمذاهب الوافدة. فالاهتمام اتجه الى التركيز على الدعوة الى تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية بدلاً من التشريعات الوضعية، ويرى البوطي أن الفرق كبير بين الإسلام وأنظمته، فالأول يربي الفرد ويعرفه على ذاته ويهذب النفس الإنسانية، بينما أنظمة الإسلام تهذب المجتمع وترعى العدالة التي يجب أن تظل سارية بين أفراده، ولما كان المجتمع هو "الفرد المتكرر" فإن صلاحيته تعتمد على صلاحية أفراده. قبل أن تكون وفقاً على صلاحية القوانين السارية في أنحائه. من هنا يرى البوطي أسبقية لتطبيق الإسلام قبل السعي لفرض أنظمته، فإذا استقر الإسلام يقيناً في العقل ووجداناً في النفس تهذب الكيان الإنساني، وتهيأ بالتالي لقبول شرائع الله وأحكامه والتقيد بها. فالإنسان حتى لو اقتنع بأدلة المنطق والتجربة فإن أحكام الشريعة الإسلامية تتضمن الحل العملي للمعضلات القائمة في مجتمعنا، وإن ما فيها من قيود من شأنه أن يصدّه عن الخضوع لما آمن به عقله خصوصاً أن عقل الإنسان محكوم أحياناً لسلطان نفسه وما فيها من وحي العصبية والأهواء. ضمن إطار مشروعية ما طرحه الدكتور البوطي فإنه ينقل تجربة المسلمين الأوائل، فيرى أن القرآن اتجه بداية وعبر سوره المكية الى ايقاظ العقل وتوجيهه الى حقائق العلم، وسعى لتهذيب النفس باستثارة ما فيها من مشاعر الرهبة والرغبة، واستمر هذا الفعل القرآني لسنوات عديدة تمت فيه صياغة النفوس بشكل جديد، وغدت السياج الذي وقى شرائع الله وأحكامه من التبدد والاضمحلال، ويرى أن التحديات التي تواجه المسلمين اليوم لا تقاس بما عاناه جيل الصحابة في مراحل التأسيس الأولى، وأن الآلية التي سار عليها الإسلام سابقاً يمكن أن يسير عليها اليوم، فالجاهلية التي ولّت مع ظهور الإسلام تعود اليوم للظهور عبر تشتت العقائد والانحرافات الفكرية التي يعاني منها المسلمون. لذلك فإن تثبيت الإسلام يأخذ أسبقية على محاولات فرض تشريعاته وسط الفوضى العقائدية التي يعيشها الناس، والتحديات التي يشيع الحديث عنها فرضها الخليط الذي تتألف منه تركيبة مجتمعاتنا الإسلامية والتي تعاني من فراغ إيديولوجي إن جاز التعبير، والعلاج يتمثل في عملين الأول تصحيح جذري تقوم به الجماعات الإسلامية لمنهج العمل الإسلامي، والثاني يتلخص في الواجب الذي يجب أن تنهض به قادة المجتمعات العربية والإسلامية في حماية الإسلام من "محترفي الغزو الفكري". وفي النهاية تأتي مداخلة الدكتور الطيب التزيني ضمن إطار النقد المنهجي، فيرى أن لا فصل بين الجوهر وتجلياته أي لا يمكن فصل الإسلام عن أنظمته بل هنا تباين في درجة الارتباط، ويرى أن طريقة الفصل جعلت تحديات عصرنا أوهاماً خيل لمسلمي اليوم أنها تحديات، وعبر تفكيك معرفي يصل التزيني الى أن العلاج المطروح في اعادة الاعتبار ل"الإمام الخليفة الأعظم" هي مسألة لم تعد مسوغة لا دينياً ولا سياسياً، فهو يتعارض مع الطموح المعاصر للفئات الكبرى والصغرى من شعوب العالم الى الديموقراطية والتمثيلية، وأما المسألة الثانية المطروحة للعلاج والتي تنفي دور الاجتهاد في ضيق الناس بالتحديات، فإن التزيني يوافق البوطي ان استخدام الاجتهاد وجوده لا يعني أن التحديات التي تواجهنا انتهت، لكنه في نفس الوقت يرى في وجود تيار اجتهادي عقلي من شأنه خلق حركة فكرية تحفز على التفكير بعمق بكيفية تجاوز تلك التحديات. القسم الثاني من الكتاب يبدأ ببحث طويل للطيب التزيني تحت عنوان الإسلام وأسئلة العصر الكبرى، يلاحظ فيه أننا نعيش انبعاثاً جديداً للإسلام أصبح يشغل حيزاً ملحوظاً في العالمين العربي والإسلامي، وهناك سعي لربط هذا الانبعاث بظاهرة العنف والإرهاب ضد مجموعات وفئات ينتمون لفئات فكرية أخرى. وهذه الظاهرة تثير الكثير من التساؤل واللبس والقلق والاحتجاج إضافة لردود فعل عشوائية، تنتج حالة فكرية مضطربة حول الإسلام ومن يُظن أنهم خصومه، وهناك في الغرب الأوروبي من يتحدث عن نظرية فراغ جديد بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، ويتم رسم سيناريو لصراع الحضارات بين الغرب والإسلام لسد هذا الفراغ. والنتيجة الثانية للفهم المشوش فتقوم على النظر الى الإسلام متطابقاً مع ما يعتبرونه إرهاباً فطرياً، ويطرح الباحث هنا مجموعة نصوص تساعد على زيادة اللبس الحاصل وهي تحاول بجملها اخراج النص القرآني في مستوى الخطاب عن سياقه التاريخي، ويستنتج الباحث أن الخروج من هذا المأزق يأتي عبر التأويل الذي يشارك فيه الناس جميشعاً، لأنهم على اختلاف فئاتهم ممثّلين حركة المجتمع المعنية أساساً بالنص القرآني، وعملياً فإن الباحث ينظر هنا الى عملية انبعاث الإسلام كنقطة تحول مهمة يمكنها صياغة الفكر الإسلامي بشكل جديد، فهي ليس عارضاً سياسياً انتجته بعض التحولات الدولية بل انها تعبر عن حركة المجتمعات ومحاولاتها لصياغة فكر إنساني. ورد البوطي على ما ورد سابقاً جاء وفق أسلوب يفصل ما بين الوضعي والتشريع الإلهي، وبغض النظر عن التوافق أو الاختلاف ما بين الاثنين فإن هذا الحوار يعطي صورة عن الواقع الثقافي وعن التفاوت في مناهج التفكير والبحث التي تحاول النظر الى واقع الحياة الذي نعيشه