لم يتأخر الرد الباكستاني على التفجيرات النووية الهندية كثيراً، لكن الباكستانيين احتاجوا الى سنوات طويلة لانجاز شريط سينمائي يكون بمثابة الرد على فيلم "غاندي". فالباكستانيون لم ينسوا غصة هذا الشريط، ولا مخرجه البريطاني ريتشارد اتنبوره، اذ ما زالوا يعتقدون انهما قدما قراءة حابا فيها غاندي ونهرو وغيرهما من زعماء الاستقلال، على حساب الدور الذي لعبته الشخصية السياسية محمد علي جناح مؤسس دولتهم الحديثة. فلم يتوان المخرج من التصريح بذلك علانية في مؤتمره الصحافي، بعد عرض الفيلم مباشرة للرد على أسئلة الصحافة. وما دام التاريخ هو المعني بكل هذه الحمية، وشبه القارة الهندية ما زالت تحتفل بالذكرى الخمسينية لنيلها الاستقلال عن التاج البريطاني، فهو قابل من جهته لتعدد وجهات النظر وللاستعادة. اذاً فالرد السينمائي جاء عبر شريط "جناح" للمخرج جميل دهلوي وليضرب عصفورين بحجر: من جهة يستحضر حياة ومواقف الزعيم محمد علي جناح وبشكل غير مسبوق، ويصوب من جهة ثانية ذلك التاريخ المضطرب في عدد من القضايا الخلافية. تتابع لقطات الفيلم الاولى، نزول جناح ادى الدور الممثل البريطاني كريستوفر لي من طائرته الرئاسية في كراتشي، ومن ثم تدهور صحته ما يستدعي نقله في سيارة اسعاف تحت حراسة بريطانية. بعد تعطل سيارة الاسعاف وسط طريق ترابية كان ذلك في الحادي عشر من ايلول/ سبتمبر العام 1948 يدخل جناح في حالة غيبوبة. في تلك الغيبوبة، التي نفذت بذكاء عبر تداخل الماضي مع الحاضر، يسترجع جناح مجمل حياته بحلوها ومرّها بدءاً بوفاة زوجته الشابة، الى الصعوبات الجمة التي تترتب على ولادة دولة الأمة الفتية. ان رصد جناح ببدلته التقليدية وهو يلج مكتبة يديرها الراوي الممثل الهندي الكبير شاشي كابور، وسؤاله عن سيرته الذاتية، هو في حقيقته اطلالة على ذلك الماضي باحلامه الواسعة. وما ان يفتح الراوي كتاب السيرة حتى يجده فارغاً، ما يدفعه الى شتم التكنولوجيا الحديثة، كإشارة الى الفراغ الذي ولده الكومبيوتر على حساب الكتاب. اللقطات الاخرى هي عبارة عن استرجاعات لأهم المراحل التي مرت في حياة جناح، منذ ان كان شاباً في كلية الحقوق في بريطانيا ومرافعاته، وزواجه من شابة غير مسلمة. اما مواقفه وتقاطعاته السياسية، فقد ارادها السيناريو ان تكون أقرب للمثال الملهم ولسمات السماحة المطلقة. فهذا الزعيم نصير الفقراء والمعوزين، يتعالى على استفزازات الهنود وتحرشاتهم بالمسلمين اثناء الصلاة، ينتقد التعصب الاعمى، يخفي مرضه خوفا من حرج السؤال عن صحته. لكن الثابت هو تحرزاته وشكوكه اللانهائية من غاندي ونهرو. فالاول، ومنذ العام 1920 عندما القى كلمة في اجتماع نظمه انصاره، وضعه في خانة ممن لا يطمئن لنياتهم. وحتى استهجن طريقته في العمل السياسي السلمي، واقترح عليه ان يرتكن زاوية ويهتم بمغزله. اما نهرو فقد وسمه بربيب الانكليز، نظراً الى علاقته الجيدة مع السيدة ادوينا ماريا اتكن زوجة اللورد مونباتن جيمس فوكس المندوب السامي البريطاني في الهند. تشي مواقف جناح الحياتية والسياسية، كما يسرد الفيلم، بالكثير من الرومانسية، ومرجعه صورة الجنتلمان الانكليزي المهتم بمظهره بشكل مفرط. وهذه الرومانسية اوقعته، ربما، في تناقضات مع النفس. فقد رفض زواج ابنته الوحيدة من شاب غير مسلم، اتخذ قراراً بالتبرؤ منها ان اقدمت على فعلتها، ما دفعها الى المضي في قرارها وترك الباكستان والاستقرار في بومباي. اضافة الى موقفه الشكاك والسلبي من كل ما كان يطرحه عليه غاندي، كونه كان تحت وهم الحلم السياسي اكثر مما كان سياسياً براغماتياً. وفاة جناح المبكرة، وهو لم يتجاوز الخمسين من عمره، وضعت مشروعه السياسي في بناء الدولة الحديثة على مفترق طرق، وفتحت أسئلة كبيرة ما زالت الباكستان لم تجب عليها. استمد المخرج نص شريطه من حوارات خاصة مع ابنة جناح، اضافة الى ذكريات سكرتيره، وبهذا التوظيف يكون الفيلم بمثابة عودة حميمية ليوميات ذلك الزعيم. لكن السؤال، هل كان للباكستان حاضر غير هذا الحاضر؟ وهل ان ارث جناح نضب سريعاً بحيث اصبح بلده عرضة لتغيرات عاصفة؟ وكم انصف هذا الشريط زعماء الاستقلال الآخرين؟ بطبيعة الحال، فان الشريط السينمائي مهما ادعى الموضوعية في تناوله للسيرة الشخصية، خصوصاً لتلك الشخصيات الخلافية وفي تلك الفترة العصيبة، يخفي في ثناياه ثغرات تبرر الأسئلة التي سقناها. صحيح ان المخرج دهلوي، من اب باكستاني وام فرنسية وخريج كلية الحقوق من جامعة اوكسفورد العريقة، وصاحب "دم الحسين" 1977 الذي اراد له تعرية ممارسات الدكتاتورية العسكرية وعسفها، ما جعل الرئيس ضياء الحق بعد توليه السلطة يضعه على قائمة المطلوبين، استفاد من توظيف قدرات الممثل كريستوفر لي في تقمص شخصية جناح المعقدة، لكنه للأسف وقع تحت عبء اللغة المباشرة والدعائية القائمة على تضخيم الذات. فاسترجاع الماضي لا يعني تناسي الخلافات