يرى ياسر الزعاترة أن محمد جابر الأنصاري يغالي في تقدير مركزية ضعف البنية الداخلية للمجتمعات العربية والإسلامية حيال تفسير واقع التخلف والضعف الذي تحياه الأمة منذ عقود. فالعامل الأساسي والمهم، كما يقول ياسر، هو وطأة العامل الخارجي، وتحديداً مصالح القوى الأجنبية وحروبها المستعرة العسكرية وغير العسكرية ضد المنطقة لتأمين تلك المصالح. وإذا كان من الضروري بمكان إعطاء عامل الخارج الأهمية التي يستحقها على الدوام، سيما في تاريخ العرب المعاصر، فإن الأمر الملازم لهذا بل ويسبقه هو التساؤل عن الأسباب التي عظّمت من اثر هذا العامل، وقوّت من تأثيره إلى هذه الدرجة. أليس الجواب يكمن في تهالك البنية الداخلية؟ وأليست صيررة الحضارات التي سادت ثم بادت عبر التاريخ مرتبطة بمدى صلابتها الداخلية؟ فما ان تضعف حتى تستعر رغبات القوى الأجنبية المجاورة فتهجم عليها؟ أليس الأمر يشابه إلى حد بعيد معادلات فيزياء السيولة حيث عاملها الأساسي هو البنية الداخلية: إذا قويت هذه البنية ضعف بالتالي اثر الخارج، وقل أثره، وإذا ضعفت تلك البنية قوي العامل الخارجي وتفاقم تأثيره. ثم في حال قلب المعادلة بالمعكوس والقول إن الداخل يضعف بسبب وطأة عامل الخارج واستمرار الضغط من قبله، فإن السؤال يصبح كالآتي: ألم تكن قوة هذا الخارج نتيجة لاشتداد متانته الداخلية هو نفسه؟ فالخارج له داخل خاص به أيضاً، وقوته التي نعاني من وحشيتها مرتبطة بداخله القوي، وليست نابعة من فراغ. على ذلك، يغدو من المنطقي، والتاريخي أيضاً، أن تكون أداة التفسير الأهم في فهم النهوض والسقوط هي المعرفة بمدى صلابة أو هشاشة البنى الداخلية للقوى، وان ما يحدثه العامل الخارجي هو استثمار الضعف وإحداث اعاقات في مواجهة النهوض، لكنها ليست حاسمة بالمطلق، بل نسبية التأثير. والشواهد التاريخية تدعم هذا التفسير، وإلا كيف يمكن ان نفسر قيام الدولة الإسلامية من بين ركام جاهلية العرب في مكة والمدينة، وتوسعها إلى الجنوب الأوروبي في أقل من قرن من الزمان؟ ألم يقم الدين الجديد بتفكيك البنية السوسيولوجية لمجتمعات العرب الهشة آنذاك، ثم إعادة تركيبها وتقويتها داخلياً، وايصالها من بعد لدرجة من القوة والمنعة بحيث تتحدى ثم تهزم القوى الكبرى، آنذاك، الروم والفرس؟ ألم يكن تأمين البنية الداخلية هو الشرط الشارط ليس لمواجهة اثر العامل الخارجي فحسب، بل ولتحديه وهزيمته. وإذا قيل هنا بأن الروم والفرس كانوا في صراع قوى مميت في ما بينهم انهكهم ووفّر شقوقاً في ميزان القوى آنذاك ولجت منها الدولة الإسلامية الوليدة، ثم توسعت، فإن هذا التفسير ينزع أية عبقرية وفرادة عن المشروع الإسلامي ويصبح مشروعاً عادياً لم يكن أثر الدين في تكوينه جوهرياً ومركزياً. لأنه، أي الدين، سواء اشتغل أو لم يشتغل على البنى الداخلية، فإن تغيير توازن القوى الخارجي كان سيتيح للعرب آنذاك أن ينطلقوا إلى الخارج. تحتاج موضوعة ميزان القوى الدولي وتحكمه في الداخل وفي تحديد مسارات التخلف والنهضة إلى توقف اضافي. فما يطرحه أنصار غلبة العامل الخارجي هو أنه لا يمكن حدوث تغيير وانطلاق نهضوي للعرب والمسلمين ما لم تحدث تغييرات جوهرية في ميزان القوى الدولي تتيح انطلاقة ما. وهذا الطرح فيه عدة مشكلات: الأولى هي اعلان اليأس من التغيير وربطه كلياً بعوامل خارج حدود الإرادة الذاتية، الأمر الذي يؤدي إلى اعتبار كل محاولات التغيير سواء أكانت حزبية أم حكومية أم جماهيرية عقيمة المفعول وغير ذات جدوى. أي ببساطة بالغة، فإن على أحزاب وحركات التغيير أن تحل نفسها لأنها منخرطة في مشروع ميؤوس منه، فالتغيير يأتي بسبب تغيير هيكلي في قوى الخارج. وهذا الاستنتاج يقود إلى المشكلة الثانية، وهي أنه سواء حكم بلادنا حكام فاسدون أم مخلصون، وسواء سيطرت على ثروات البلاد طبقات طفيلية ناهبة، أم نخب مجدة ودؤوبة، فإن المآل واحد: وهو أن لا أمل في التغيير ما لم يحدث تغيّر جذري في ميزان القوى العاملة لمصلحتنا. والمشكلة الثالثة هي أن هذا الطرح لا يمضي في تفسير الكيفية التي يمكن ان يتغير بها ميزان القوى الخارجي؟ فهو لو مضى بذلك الاتجاه وتعمق في محاولة تفسير كيف تتبدل مواقع القوى ويختلف ميزانها، لوجد أن التغيير المفترض تقع في قلبه معادلة قوة أو ضعف البنية الداخلية لهذه الدولة الكبرى أو تلك، أي أن ميل ميزان القوى لمصلحة دولة كبرى، حليفة للعرب مثلاً، سببه أن هذه الدولة قويت داخلياً لسبب أو لآخر، في حين ان الدولة الأخرى، المعادية للعرب افتراضاً، ضعفت داخلياً لسبب أو لآخر. هذا الكلام لا يعني بالطبع تبرير أو التقليل من بشاعة سياسة القوى الغربية تجاه الأمة العربية والإسلامية والعالم الثالث عموماً. فحلقة الاستعمار والامبريالية وما بعد الامبريالية واستعبادها شعوب العالم الجنوبي في القرون الثلاثة الأخيرة سوف ترصد على أنها من أحلك مراحل التاريخ الإنساني قاطبة. لكن هذه البشاعة الموغلة في الوحشية يجب أن لا تثير الاحباط واليأس وتبني سياسة انتظار المجهول. فهذا الانتظار يفترض واحداً من حلين: إما أن تتحول سياسة القوى الأجنبية إلى سياسة رحيمة ورؤوفة تلقائياً من دون ضغط من جهة الذين يعانون منها، وهذا من المستحيلات السياسية طالما قانون المصلحة هو الذي يضبط بوصلتها، والثاني هو ان ينهار داخل الغرب نفسه، فيضعف خارجياً، ويتيح لنا ان نتنفس. * كاتب فلسطيني