قبل اسبوع، كان صدام حسين يأمل في ان يحقق كسباً مزدوجاً، بتحدي المجتمع الدولي والمطالبة في الوقت نفسه بانهاء العقوبات الدولية. لكن جيرانه والعالم اصروا على ان يفي العراق بالتزاماته بشكل كامل، وأكدت الولاياتالمتحدة وبريطانيا استعدادهما لدعم هذا الاصرار بالقوة العسكرية. وازاء ردٍ دولي حازم وموحد، أذعن صدام. وعاد مفتشو الاسلحة الدوليون الآن الى العراق، ليقوموا بمهماتهم - لا لأننا نثق بتعهدات صدام، بل لأننا نريد أن نختبرها. قلنا منذ بداية الازمة ان أفضل وسيلة لتحقيق اهدافنا المشتركة تكمن في استئناف عمليات التفتيش الدولية على الاسلحة، لأنها الأداة الاكثر فاعلية لدينا لكشف وتدمير الاسلحة التي استخدمها صدام ضد شعبه والعالم ومنعه من إعادة بنائها. الآن، بعدما تراجع العراق وسمح للمفتشين بالعودة، تتخذ الدول في انحاء العالم موقفاً موحداً بالاصرار على إيفاء العراق بالتزاماته، ومن ضمنها جيران العراق في العالم العربي. ومن المهم ان ندرك السبب وراء هذا الموقف. اولاً وقبل كل شىء، ضاق العالم كله ذرعاً باستمرار العراق في الخداع والتحدي. وكان العراق وافق كشرط لوقف النار في حرب الخليج على ان يكشف عن ترسانة اسلحة الدمار الشامل التي يملكها خلال 15 يوماً. بدلاً من ذلك، امضى الجزء الاكبر من عقد من السنين في التهرب من التزاماته، فامتنع عن تقديم معلومات للمفتشين وعرقل عملهم وأتلف معلومات على مرأى منهم. ولا يوجد مثال اكثر وضوحاً من التوصل اخيراً الى ان العراق أنتج غاز "في إكس" - السلاح الكيمائي الاكثر فتكاً في العالم - وعبّأه في رؤوس حربية لصواريخ كان يمكن ان تُطلق في اي وقت ضد جيرانه. واكد خبراء من اكثر من عشر دول هذا الاستنتاج. ثانياً، يتذكر العالم كله الماضي القريب ويدرك ان صدام خطر على السلام. واظهر صدام عاماً بعد عام، وفي نزاع تلو الآخر، انه يسعى الى الحصول على الاسلحة كي يستخدمها. وفي كل مرة استخدمها كان ضحاياه من شعوب الشرق الاوسط. فقد واصل حرباً استمرت عقداً من السنين ضد ايران، كلّفت ارواح ما لا يقل عن نصف مليون شخص. واستخدم مراراً اسلحة كيمائية ضد جنود ايران واطلق صواريخ "سكود" على مدنها. وفي 1990، قامت قواته بغزو الكويت، ونفذت احكام الاعدام بحق من أبدى مقاومة، ونهبت البلد، واشعلت النار في 600 من ابار النفط لتتدفق عشرات ملايين الغالونات من النفط الى الخليج، واطلقت صواريخ على الرياض والمنامة. الضحايا الرئيسيون لسوء الحكم من جانب صدام هم العراقيون انفسهم. فقد اختفى أكثر من 70 ألف كردي عراقي خلال حملة الانفال المهلكة التي شنها صدام في 1988، وقتل ما لا يقل عن 5 آلاف شخص بغاز الخردل. واُجبر أكثر من 150 الفاً من سكان الاهوار العرب على مغادرة ديارهم عندما قامت القوات العراقية بتجفيف الاهوار جنوب البلاد عقب حرب الخليج، ودُمّرت ثقافتهم وقُتل كثيرون نتيجة القصف المدفعي وبواسطة المروحيات الحربية. ونُفّذت احكام الاعدام بحق حوالي 1500 سجين سياسي في العراق عام 1997، بحسب الاممالمتحدة. وفي الوقت الحاضر، يعيش كل العراقيين في حالة رعب تحت وطأة الخوف من الاعتقال الاعتباطي والتهجير من ديارهم. وطيلة السنوات السبع الاخيرة، كان المجتمع الدولي، وليس صدام، هو الذي حاول ان يبقي العراقيين على قيد الحياة. عندما فُرضت العقوبات على العراق اثر غزو صدام للكويت، استثنت الاممالمتحدة منها الغذاء والدواء والامدادات الانسانية الاخرى. وفي اعقاب حرب الخليج، بادرت الولاياتالمتحدة الى تقديم اقتراح بان يُسمح للعراق ببيع كميات محددة من نفطه واستخدام العائدات لشراء إمدادات انسانية. وحتى عام 1996 كان صدام يرفض القيام بذلك، على أمل أن يتلاعب بالرأي العام العالمي بتجويع شعبه. والآن، يؤمن برنامج النفط مقابل الغذاء، بعد تطبيقه، حوالي 3 بلايين دولار من العائدات التي يمكن للعراق ان يشتري بها الغذاء والدواء. وتزايدت إمدادات الغذاء في العراق، لتزود المواطن العراقي كمعدل بحوالي 2030 سعرة حرارية يومياً، وهي كمية تفوق الحد الادنى اليومي الذي توصي به الاممالمتحدة. وتعادل كمية المساعدات الانسانية المتوفرة للعراق تقريباً مجموع المساعدات المقدمة لكل البلدان في العالم التي سعت الاممالمتحدة الى اغاثتها على امتداد السنوات الثلاث الماضية كلها. ومع ذلك، يواصل صدام عرقلة البرنامج ويرفض التبرعات الخارجية من الغذاء والدواء. في غضون ذلك، انفقت الحكومة العراقية اموالها على بناء قصور مترفة واخفاء اسلحتها وتخزين الاغذية للوحدات العسكرية الخاصة التابعة لها. وحصل العراق على مئات ملايين الدولارات من التهريب، لكن الجزء الاعظم من هذه الاموال ملأ جيوب افراد عائلة صدام وانصاره. ومنذ ان بدأ تطبيق برنامج النفط مقابل الغذاء، خفض النظام مشترياته من الغذاء بما يراوح بين 300 مليون دولار و 500 مليون دولار سنوياً. في الوقت الحاضر، في ظل العقوبات الدولية، يُسمح لنظام صدام بأن يُنفق عائداته النفطية على شيئين فقط: الغذاء والدواء. واذا رفعت العقوبات يمكن لصدام ان ينفق ثروة بلاده النفطية على أي شيء حسب ما يريد. يمكن للنفط مقابل الغذاء ان يتحول الى النفط مقابل الدبابات. بل يمكن فعلاً الاّ يحصل الشعب العراقي على ما يكفي لاطعامه. وستزيد بالتأكيد مخاوف جيران العراق. هذا ما يدفع الولاياتالمتحدة الى مواصلة العمل، بصبر وتصميم، لمنع صدام من تعريض شعبه الى الخطر وتهديد جيرانه وإضعاف امن العالم. لا نسعى الى مواجهة مع العراق، بل نريد بالاحرى ان ننهي مواجهة العراق مع العالم. ولا نشكك في وحدة اراضي العراق كدولة، بل نثير بالاحرى مسألة اضطهاد الحكومة العراقية لشعبها الذي يؤدي الى تمزيق العراق. ان سياستنا مؤيدة للعراقيين، بمعنى ان اهدافها متطابقة مع مصالح الغالبية الساحقة للشعب العراقي. انها مؤيدة للاسلام، بمعنى انها تسعى الى بناء عراق يمكن فيه لكل معتنقي الاديان ان يعيشوا في سلام، وشرق اوسط يمكن فيه لكل معتنقي الاديان ان يعيشوا في أمان. وبالفعل، يعكس الملايين الستة من المسلمين الاميركيين، الذين يمارسون العبادة في العدد المتزايد من المساجد والمراكز الاسلامية في بلادنا، الحقيقة الماثلة في عدم وجود اي تضارب بين الاسلام واميركا. وكما قال الرئىس كلينتون "حتى ونحن نكافح للتوفيق بين جميع الاميركيين وللتوصل الى وحدة اكبر في اطار تنوعنا المتزايد، سنبقى متمسكين بنهج الصداقة والاحترام للعالم الاسلامي. سنواصل العمل على تحقيق قيم مشتركة ومصالح مشتركة ومساعٍ مشتركة". عندما يتعلق الامر بنظام منبوذ يملك اسلحة دمار شامل وسجلاً في استخدامها، لا بد للولايات المتحدة واصدقائها في العالم الاسلامي من ان يحافظوا على وحدتهم - لاننا جميعاً مهددون. ونأمل كلنا بحماسة بأن ينضم العراق ثانية الى اسرة الامم كعضو محب للحرية وملتزم بالقانون. وعلينا جميعاً ان نعمل معاً لتحقيق هذا الامل، لمصلحتنا ولمصلحة الشعب العراقي الذي عانى طويلاً. * مستشار الرئيس بيل كلينتون لشؤون الامن القومي.