المواجهة المتجددة بين العراق وفريق التفتيش الدولي تذكرنا بالقصة القديمة عن رجل يوقف رجلاً في الطريق ويصرخ به: انت تشتم والدي؟ ويرد الثاني مستغرباً انه لم يفتح فمه، ويصرخ الأول من جديد: وتشتم والدتي كمان؟ إذا كانت الولاياتالمتحدة تريد افتعال معركة مع العراق، فلا شيء ينفذه العراق سيمنع ذلك. وسبب الخلاف هذه المرة واضح، ففريق التفتيش يريد وثائق، على شكل رسائل وغيرها من كبار الضباط العراقيين، والحكومة العراقية تقول ان هذه الوثائق غير موجودة. وردت الولاياتالمتحدة مهددة، وانضمت اليها بريطانيا، ما جعل مراقبين كثيرين يعتقدون ان الضربة التي منعت في آخر لحظة قبل اسبوعين ستنفذ من دون انذار هذه المرة. ربما كان الوضع الحقيقي هو عكس الشعور العام تماماً، فارتفاع الصوت الاميركي قد يكون سببه تحويل الأنظار عن عدم توجيه ضربة، لا ايجاد العذر لتوجيه الضربة المؤجلة. وكان الرئيس كلينتون غيّر رأيه فجأة في نهاية الاسبوع السابق، وقال ان المخرج من الأزمات المتكررة مع العراق، هو في قيام حكومة ديمقراطية في بغداد لا تهدد جيرانها بأسلحة الدمار الشامل. غير ان هذا التغيير كان هو ايضاً موقتا لصرف الأنظار عن عدم توجيه ضربة عسكرية. اليوم، يقول أركان فريق التفتيش الدولي ان سلطتهم تآكلت، وانهم لا يستطيعون العودة الى مستوى نشاطهم سنة 1996. ثم ان انقطاعهم عن التفتيش أربعة اشهر يعني ان الحكومة العراقية استطاعت ان تخفي ما تريد اخفاءه، وما كان المفتشون على وشك وضع اليد عليه، قبل خروجهم من بغداد. في مثل هذا الجو من العجز عن إكمال المهمة، أخذ الاميركيون يتحدثون عن قلب الحكومة في بغداد. غير ان قول هذا أسهل من تحقيقه، اذا افترضنا ان الادارة جادة في موقفها، ولا تحاول باعلان هذا الموقف تحويل الأنظار عن وقف الضربة العسكرية. الحكومة الاميركية تعمل بنشاط لتوحيد فصائل المعارضة العراقية، وهي مهمة ليست صعبة، بل مستحيلة، ويكفي ان جهودها مع الاكراد وحدهم على مدى السنوات السبع الماضية، فشلت بامتياز. مع ذلك الفكرة واضحة، فلو اتفقت فصائل المعارضة، من أكراد في الشمال وشيعة في الجنوب، مع المؤتمر الوطني العراقي وغيره، لأمكن قيام حكومة بديلة في مكان ما من شمال العراق، بحماية الاميركيين. ثم تعترف الولاياتالمتحدة بهذه الحكومة، وتضغط على حلفائها للاعتراف بها. وفي حين ان تحقيق هذا الجزء وحده من المشروع الاميركي يبدو حلماً اكثر منه سياسة عملية، فإن الجزء الثاني يدخل في الاستحالة، لأنه يفترض ان تزحف الحكومة البديلة على بغداد وتقلب النظام فيها. غير ان هذا غير ممكن من دون مساهمة عسكرية اميركية مباشرة، تشمل قوات برية، وهذا أمر يعارضه الاميركيون بشدة، ولا يوجد سبب لتصور عمل الرئيس كلينتون في سبيله. الخيارات الاخرى تشمل مخرجاً هو الأقل نفقات والأصعب تنفيذاً، وهو اغتيال الرئيس صدام حسين. غير ان وكالة الاستخبارات المركزية تعرف ان ثمة أمراً رئاسياً يمنعها من التآمر لاغتيال قادة أجانب. وحتى لو وجدت الحيلة القانونية لتجاوز الأمر الرئاسي، فإن الوصول الى الرئيس العراقي متعذر، خصوصاً ان صدام حسين نفسه يعرف انه على رأس "نظام الرصاصة الواحدة" أي ذلك النوع من النظام الذي تطيحه رصاصة. وتستطيع سي.آي.ايه. ان تحاول تدبير مؤامرة لقلب النظام من داخله، الا انها لا تملك أي اتصالات مع أركان الحلقة الداخلية الضيقة من أركان النظام، وقد اثبت صدام حسين باستمرار انه متقدم خطوة أو اثنتين على كل المؤامرات التي تحاك ضده. إذا كان هذا لا يكفي لجعل الحديث عن اطاحة النظام مجرد رياضة فكرية، فإن الدول المجاورة للعراق، ليست متحمسة لفكرة قلب النظام، فهي تخشى ان يسفر عدم الاستقرار التالي عن تقسيم العراق الى دولتين في الشمال والجنوب، وربما دولة ثالثة في الوسط، ما يغذي النزعات الانفصالية في الدول المجاورة، ويفتح أبواباً للشر يصعب اغلاقها بعد ذلك. وهكذا نعود الى التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل، فهو السياسة الوحيدة العملية فعلاً في الظروف الحالية. وبما ان سيف الضربة العسكرية قائم، فإن تحقيق نتائج عن طريق اونسكوم يظل أفضل احتمالاً من أفكار طموحة لقلب النظام لا يمكن ترجمتها عملياً في المستقبل المنظور، فالولاياتالمتحدة والمعارضة العراقية لن تغزوا بغداد، الأولى بسبب عدم وجود إرادة، والثانية بسبب عدم وجود قدرة.