يقف الشباب اليوم، بحيرة، أمام نهاية عصر المكتوب وانطلاقة عصر المرئي والمسموع. وجثومه في هذا النومانزلاند المعرفي الفاصل ليس توقفاً بين زمنين فحسب، بل بين تصوّرين للدنيا وللآخرين، حيث أن كل وسيط له سبله الخاصة لبلوغ مضامين المعرفة. وبما أن لا مجال لفصل وسيط المعرفة عن المعرفة التي ينقلها، على حدّ ما بيّنه ريجيس دوبريه في كتابه حول الميديولوجيا، فإن خطورة الخيار الحائر المطروح قد تؤدي بالشاب والشابة العصريين الى ضياع سوف يصعب تدارك أفاعيله في المستقبل. فتراجع معدّلات المطالعة في أوساط الشباب، في العالم العربي وبلدان الجنوب على نحو خاص، ملأ بشكل مصطنع فراغه شكل المواظبة على الشاشة الصغيرة، بحيث أن مدّة متوسط المشاهدة التلفزيونية يومياً، يفوق مرتين ونصف مرة متوسط ساعات المطالعة اليومية. وفي الوقت الذي اقتربت فيه الأزمة المعرفية هذه من الخط الأحمر المنذر بولادة جيل يشاهد ولا يقرأ، أطلّت شبكة الانترنت، فراحت تنسج خيوط الوفاق المستجد بين المكتوب والمرئي والمسموع، فمر القطوع على خير وغدت الكلمة المطبوعة تحتلّ موقعاً جديداً أعاد اليها بعض بريقها السابق وسمح للشباب بإجراء المصالحة، في رأسهم، بين المشاهَد والمقروء. وهنا لا بدّ من الإشارة الى أن ذكاء البشرية الجماعي، شبه الغريزي، يشبه ذكاء جسم الإنسان الذي يتآلف، في أزمنة الوباء، مع الفيروس الذي يفتك به، فيعيد أثره، بعد فترة، الى معدّلات قابلة للمكافحة، وهذا ما يُسمّى، في لغة الطب، بالمنحنى الوبائي، الذي يرتفع خطّه بشكل مطرد ومخيف خلال المرحلتين الأولى والثانية، قبل أن يبلغ ذروته، ثم يبدأ من دون أن نعرف لماذا بالتراجع والانحسار. ولعب زمن التلفزيون هذا الدور الوبائي من السبعينات وحتى مطلع التسعينات، الأمر الذي أقلق جداً في حينه المربّين الذين اعتبروا أن لا مجال لمقاومة هذه الموجة العارمة التي تحوّلت الى نزوع معرفي عميق. حيث أن تسويق كل شيء، من السلعة الى الفكرة، مروراً بالموضة والموقف السياسي، أضحى وقتذاك مديناً بتعريجه على الشاشة الصغيرة وخضوعه لها ولمنطقها. أما اليوم فقد بات الإنترنت فسحة تفكير مقروء جديدة سمحت للشباب بإعادة الاعتبار الى الكلمة التي كانت الصورة على وشك محوها، وهذا ليس بالأمر اليسير. ذلك أن مردود هذه العملية الخفيّة والصامتة، الحاصلة في أعماق تلافيف الدماغ ووظائف الذهن، مردود ايجابي من دون أي شك. فالتفكير عاد الى مدار المقروء، بعد طلاق من ناحية، وبعد زواج متعة طويل ربط بين الشباب المعاصر وبين الصورة الناطقة، من ناحية أخرى. صحيح ان الإنترنت له محاذيره الخاصة ومشاكله العضوية، ولكن الكتاب أيضاً، في زمنه، كانت له محاذيره، حيث أشار ذات مرّة ماو زيدونغ الى نزوع تقديس الكلمة المطبوعة عند الطبقات الشعبية الواسعة. الأمر الذي كان ينعكس تعويقاً ذهنياً عند هذه الشريحة الاجتماعية الواسعة، حاجباً عنها إمكانات تقدمها الموضوعية. أما اليوم فقد عادت الأمور الى نصابها نوعاً ما وعاد الشباب يجد مستمسكات مادية جديدة لإجراء عملية الربط بين مطلَّقي الأمس، في عقله، فعادت الحجّة الى الكلمة المكتوبة بعدما سلبتها منها الصورة طوال فترة ثلاثة عقود. أما المشكلة المطروحة فهي اليوم ضرورة اعادة تأهيل المربين أنفسهم معلوماتياً، بحيث يصبحون قادرين على مواكبة هذا الانتصار الذي جاءهم من حيث لا يدرون، واستثماره على أرض الواقع ازدهاراً جديداً ومستجداً لمجد سابق مسلوب. كاتب وأستاذ جامعي لبناني