ولدت في نهاية الخريف وبداية الشتاء.. كان البرد هو أول إحساس استقبل به الحياة.. ومن هنا فقد وقعت في هوى البرد. والصيف عندي ضيف ثقيل يجثم على أنفاس المرء فلا يتركه يحيا ولا يدعه يموت، إنما هو شيء بين بين.. وفي الصيف لا يرفع المرء عينيه للسماء إلا نادراً. فإذا غامر ونظر إلى أعلى ردته الشمس على عقبيه كما يرتد جيش مهزوم أمام كرة ضخمة من النار.. إن ضربة الشمس في الصيف أحياناً تصيب السائرين في الظل، فما بالك بمن يتجاسر ويرفع عينيه ويحدق في الشمس، إن الشمس تنطبع في عينيه وحتى لو أغلقهما فسوف يظل يرى الشمس.. وحقيقة الشمس أنها نجم أقرب من بقية النجوم، وهي في ذاتها سلسلة من الانفجارات النووية، أي انها في حد ذاتها جحيم، ولكنها في البعد تتحول إلى طاقة تمد الكائنات في الأرض بالحياة. ولو أن الشمس أزيحت الى ضعف بعدها الحالي عن الأرض، لتجمدت مياه الأنهار والبحار والمحيطات وغرقت الحياة على كوكبنا في جليد قاتل، ولو أن الشمس اقتربت من الأرض الى نصف ما هي عليه الآن فسوف تغلي مياه المحيطات والأنهار وتتبخر الحياة وتنتحر في جحيم الحرارة الجديد! كل شيء إذن محسوب ومقدر، وفي الصيف نرى طرفاً من الجحيم الذي ينتظر الجاحدين.. ومن المعروف أن الإنسان لا يستطيع أن يفكر بشكل سليم وهو في الجحيم، ولما كان الصيف الخانق اللاهب صورة مصغرة ومخففة من الجحيم، فإنني أجد نفسى في الصيف عاجزاً عن التفكير.. إن الإنسان يعتبر مريضاً إذا ارتفعت درجة حرارته درجة واحدة أو درجتان، وهو يهرع إلى الطبيب أو يهرع إليه الطبيب إذا ارتفعت درجة حرارته درجتان ونصف.. لكن حرارة الصيف ترتفع ثلاثين درجة واحياناً أكثر، ورغم ذلك لا يعالجها إلا طبيب سيحضر بعد ستة أشهر هو الشتاء. والشتاء والبرد مثل زهرة معطرة. ومثلما يسبق الزهرة شذاها العطر قبل أن تصل إليك، فكذلك يسبق البرد فصل الشتاء حينما يولد الشتاء، ومن المدهش أن الشتاء يولد من قلب الصيف، والبرد رفيق الشتاء وهو من أعجب المخلوقات التي تعيش معنا على سطح الأرض. ويتدثر البرد عادة بعباءة الرياح، ويعلن عن نفسه قبل وصوله شأن الملوك والعظماء، ولا يكاد البرد يوجد في مكان حتى تحني الحرارة رأسها وتبدأ في التراجع والانكماش حتى تتحول الى ثلج أبيض أخرس. والبرد ليس ضيفاً عادياً تستطيع أن تستقبله بأي ملابس، ولا تستطيع أن تفتح له صدرك العالي. إن البرد لا يحب رفع الكلفة، وهو مخلوق وقور لا يغفر لك أي عرى أو عبث، وأي محاولة للاستهانة بالبرد تطرح صاحبها صريعاً في الفراش، ويعاقب البرد من لا يريعون وقاره عقاباً صارماً ولكنه لطيف، كأنه يصدر من أب يؤدب أبناءه، إن البرد لا يقتل، ولكنه يجعلك ترتعش وتسخن وتبرد وتعطس وتكح. والبرد رغم قسوته المبطنة بالحنان لا يعاقب طويلاً، إنما هي أيام في الفراش تحس فيها إنك بمأمن من كل أخطار الطريق ومرعبات الدهر وحوادثه. والبرد ملك حقيقي يرتعش أمامه الملوك والصعاليك والأغنياء والفقراء والأذكياء والأغبياء، ولا يقبل الملك الحقيقي أقل من الولاء المطلق من جميع رعاياه رغم اختلافهم. والبرد هو المأذون الذي أدى الى ملايين الزيجات التي وقعت على سطح المعمورة، فإن الأعزب يقتنع بأهمية الزواج بعد ليالي الشتاء التي يقضيها وحيداً في بيته مثل حيوان بري مستوحش. ولولا البرد ما تكاثرت البشرية بهذه السرعة، فإن البرد يدفع الناس الى التلاصق ومعظم النار من مستصغر الشرر. والبرد هو فصل الكتاب والشعراء والفنانين، وعلى حين تدخل فيه الأفاعي والسحالي بياتها الشتوى وتنام، ويستيقظ الشعراء ويعالجون الكلمات والاحاسيس والموسيقى. والبرد كله مزايا وفضائل، وليس له سوى عيب واحد أو عيبين. إنه يحتاج الى طعام خاص يدخل فيه الزبد واللحم والحساء والبيض والفواكه، وهذا كله مرتفع السعر. أيضاً يحتاج البرد الى فراش وثير وأغطية صوفية، ولولا هذين العيبين لكان البرد مخلوقاً بلا عيوب، ولكن الحلو لا يكتمل، كما تقول أمثالنا العامية.