منذ ولادة "توفيق لام" سنة 1932، في أسرة ال عبدالمولى، بعد انتقال والده سور الدين، من دربونة الشوادي في خانقين إلى الحيدر خانة، بدا أن هذا الوليد الذي كان "طفلاً نادراً في جماله" سيكون مختلفاً عن أبناء عمومته، وحتى عن أخيه عبدالباري نفسه، الذين لا تميّزهم سمة أكثر من القبح المتوارث. ولذلك، ما إن يولد توفيق حتى يتبيّن للجميع أنه - بشعره الأسود الناعم وعينيه الواسعتين الطويلتين وتقاطيعه الدقيقة المرسومة بإتقان على صفحة وجهه الصافي البياض - طفل مختلف، وأن اختلافه هذا - على صعيد الشكل - سوف ينعكس اختلافاً وتمايزاً كبيرين على مستوى مضمون الشخصية التي سيكونها مروراً بمراهقته ونضجه وكهولته في سن التاسعة والأربعين التي سيبلغها عند نهاية الرواية. توفيق هذا هو الشخصية الأساسية الأولى، بل الوحيدة إلى جانب الشخصيات الأقل حضوراً وأهمية في رواية "المسرات والأوجاع" دار المدى - 1998، 467 صفحة للروائي العراقي المعروف فؤاد التكرلي، صاحب الرواية الشهيرة في الثمانينات "الرجع البعيد". يجسد توفيق شخصية مثقف هامشي رافض، يتمرد على قيم وتقاليد وعلاقات محيطه الأسري والإجتماعي، لكنه محبوب من النساء، بدءاً من تلك المرأة التي تخطفه وتشدّه إلى منزلها فيكتشف معها اللذة الأولى، لكن عالمها يتكشف عن قذارة تجعل الفتى المراهق يهرب ولا يعود إلا عندما تشتد أزمته، غير أن عودته بحثاً عن الحب والمتعة معاً تصطدم بقذارة تغطي على ما يحصل عليه من متعة، فتبدأ بعدها سلسلة من العلاقات القائمة - في الأساس - على عنصر الحب الجنسي، حب الجسد الأنثوي بتفاصيله. الجسد الغني بالعناصر الحيوية - التي تشكل عامل إبهار وجذب يقود العلاقة في رحلة غوص في الجماليات التي ينطوي عليها جسد الأنثى من جانب، وتلك الجماليات التي تنجم عن التواصل بين الذكر والأنثى /الرجل والمرأة، جسدياً، من جانب آخر. يستند فؤاد التكرلي في روايته هذه إلى نصوص عدد من كبار المبدعين في العالم، ليرسم، أولاً، شخصيته الأولى توفيق بكل ما لديه من شهوة الحياة وما ينطوي عليه من رغبة وسعي إلى السعادة المتجسّدة - أساساً - في العلاقة الحميمة، الجسدية، مع المرأة، حيث العلاقة الجسدية ليست مجرد وقائع ممتعة وحسب، بل علاقة حيوية ذات مواصفات وسمات إنسانية يجعل منها الكاتب ساحة لقاء لافتراق شديدة الخصوصية. من النصوص المهمة التي يتكئ عليها المؤلف، وتفسّر ملامح من شخصيته الروائية البطل - توفيق، نص للكاتب الروماني سيوران يثبته المؤلف بعد انتهاء النص الروائي، ومقولته هي "إن المدينة تعلمنا كيف نتعلق بالأشياء، مع أن واجبها ان تلقننا فن التخلي عن الأشياء" إذ لن توجد حرية ولا حياة حقيقية من دون تعلم التخلي وعدم الإمتلاك. إني أستولي على الشيء وأحسب نفسي سيداً له، والواقع أني عبد له، كما أني عبد أيضاً للآلة التي أصنعها وأديرها". يجد هذا النص صدى عميقاً في شخصية توفيق لجهة إحساسه بحضور /غياب المرأة، وامتلاكها /فقدانها، ولجهة تحقق العلاقة، في صورة من الصور، ثم انتهائها على نحو ما. فمن علاقته الأولى بالبغي، إلى علاقته بالفتاة آديل قبل زواجها من أحد أصدقائه وبعد الزواج، ثم علاقته مع كميلة التي يتزوجها تحت وطأة غياب آديل، ولظروف أخرى، ثم علاقته مع فتحية ومع أنوار .. لقد شكلت هذه العلاقات، وهؤلاء النسوة، عالم توفيق تشكيلاً غريباً كشخص يحمل بذرة شقائه في صميم وجوده، لكنه يحاول أن يتفادى - بذكاء وبطرق عدة - نمو هذه البذرة وتدميرها حياته. فكانت العلاقة بالمرأة هي وسيلته لهذا التفادي. وكانت وسائله في الوصول إلى المرأة تراوح بين انجذاب المرأة إلى شخصه الجذاب، وبين استجدائه قبلة أو كلمة. وبين الأمرين قضى توفيق حياة نصفها مسرات والنصف الآخر أوجاع. في النصف الأول إشباع لرغباته وغريزته وسعادة لا يعرف هو نفسه كيف يصفها، وفي النصف الثاني آلام عاطفية وجوع للجنس وللطعام وانكسارات أمام تحوّل الأصدقاء عنه. ولنكتشف معه أن "هذه العلاقة الأزلية بين الأنثى والذكر تسبب من الأوجاع أضعاف ما تمنح من المسرات". ولهذا فان توفيق يظل يتأرجح بين حريته وبين سعادته، مع أنه غالباً ما يختار السعادة، ولكن أي سعادة؟ إنها "سعادة التوهج الدائم بغير إشباع"، ويتساءل "أتكون هذه هي السعادة التي يقدمها العقل الأخلاقي في مخلوق يفنى .. كما يقولون؟". ويثبّت المؤلف في نهاية الكتاب مقولة الفيلسوف فيل Weil التي يقول فيها "إن هدف الأخلاق هو السعادة، ولكنها السعادة التي تقدمها الأخلاق، أي سعادة العقل في كائن فانٍ. لذا لم تكن السعادة إشباعاً للرغبات" فالسعادة الفلسفية الحقة ليست هي إشباع حاجات حيوانية فينا، بل هي العيش وفقاً للعقل"، ليقول لنا إن توفيق لم يكن سعيداً فلسفياً .. وإن سعادته ليست سوى سعادة فقراء، أي سعادة موقتة وعابرة لأنها ترتبط بتلبية حاجة من حاجات الغريزة. وتختلف كل علاقة من علاقات توفيق النسوية باختلاف المرأة، إلا أن الجنس يظل غاية أساسية في كل من هذه العلاقات. وإن اختلف معنى العملية الجنسية ومدلولاتها وغاياتها لدى المرأة، فإن هذه العناصر لا تختلف لدى "البطل" المهجوس بالجنس كغاية حيناً، وكوسيلة إلى بلوغ غاية، هي السعادة أو المسرّة، غالباً. ولهذا نجد لقاءه مع كل من هذه النسوة ينتهي نهاية مختلفة عن سواها. وربما كان أنموذج زوجته التي طلّقها أو طلّقته بعد سنوات من زواج لم يثمر أطفالاً معبّراً أدق تعبير عن المسافة التي تقوم بين شخصين غير متفاهمين، لأن "التفاهم - بحسب فيل نفسه لا يوجد إلا بين الأفراد الحقيقيين". وقد كانت فردية توفيق عالية إلى الحد الذي منع قيام تواصل حقيقي وعميق مع كميلة التي لم تكن تريد من زواجها به سوى إنتاج طفل /أطفال لم يتيسّر لهما إنجابهم، فانتهت العلاقة. وفردية توفيق تتمظهر بجلاء في علاقاته كلها، وفي حلمه بالتحرر من كل ما هو غير ضروري، والقبول بعيش الكفاف حتى لا يكون تأمين العيش مجالاً للمساومة والتنازلات. بل إن انتهاء الرواية في اللحظة التي حصل فيها توفيق على مبلغ ضخم خمسين ألف دينار تركها له غسان، الشاب الذي رعاه توفيق وأسهم في تثقيفه قبل أن تهبط عليه الثروة التي تركتها له أمه .. فأراد أن يردّ لتوفيق بعض جميله عليه، قبل أن يستشهد في الجبهة .. إن انتهاء الرواية في هذه اللحظة، حين يمتلك، للمرة الأولى في حياته، هذا المبلغ، تشير إلى أن الرواية كانت تُعنى بالبطل وهو في لحظات تأرجحه بين المسرّات والأوجاع. أما وقد بات يملك ما يجعله ثرياً، فقد كان عليه أن يتساءل "ملتاثاً بهذه الثروة الضخمة، وضائعاً بين احتشاد المشاريع الحياتية" وأن يفهم السبب - الدافع الحقيقي الذي دفع غسان إلى ذلك، لأن "الخطأ في هذا المجال، أقل خطأ، هو كارثة .. أخلاقية"، ويحاول التوصل إلى ما ينبغي عليه أن يعمله تجاه غسان، وتجاه فتحية التي تركها غسان حاملاً من دون أن يكون قد تزوجها. فأي مسؤوليات سيتحمّلها هذا "البطل" الذي ظل شبه مشرّد منذ طرده من وظيفته .. بعد أن غدا ثرياً؟ لا بد من إنهاء الرواية إذاً! يستعين الروائي بعدد من الروايات العالمية لتسهم في نقل رؤيته، فهو ينتقد ويشيد ويدافع ويفضل أعمالاً روائية، فنكتشف فيه قارئاً /ناقداً بعمق. ألبير كامو، في دفاعه عن الحياة على رغم العبث "كان جباناً أكثر منه مفكراً مقنعاً" ومات، بالصدفة، ميتة عادية جداً". وقراءته للغريب لم تكن مريحة أبداً. وثلاثية نجيب محفوظ "جميلة ومسلية، ولكن لا يمكن أخذها كرواية مأخذاً جدياً، فيها ثرثرة تليق بالعجائز". يجلس المؤلف /بطل الرواية كأنه "أحد أرباب اليونان القدماء" ويحاكم المؤلفين ومؤلفاتهم، فنرى "أيام طه حسين" كما يراها، عملاً لغوياً وإنسانياً ذا مستوى رفيع .. "شيء خارق تلاعب هذا الرجل باللغة ودقة تعبيراته. لم يعجبني منه فقط اختفاؤه وراء ضمير الغائب وهو يحكي عن نفسه.."، ولكن فؤاد التكرلي نفسه يستخدم الأسلوب نفسه أحياناً، حين يترك الراوي يتحدث عن البطل، ثم يعود ليترك البطل يتحدث عن نفسه .. ويستخدم اسلوب سرد اليوميات كالمذكرات بصيغة المتكلم ليقول إنه أكثر جرأة. ثمة شخوص وشخصيات ذات بنية متينة في العمل، إلا أنهم يظلون أقل أهمية، من حيث دورهم وحضورهم في الرواية، من توفيق لام، بل إن دورهم الأساس هو إضاءة جوانب وملامح هذا "البطل". هناك كميلة وفتحية وغسان وعبدالباري وكاسب برهان الدين، وممتاز المحامي وجاسم الذي سيتزوج كميلة بعد انفصالها عن توفيق، فيستحق - بعد موتها، وبعد قيام علاقة بينه وبين توفيق - لقب "المسخ النقي". ولعل من الجدير بالإنتباه هذه المقارنة بين إمرأة لم يستطع أن ينالها، وهي سندس زوجة الفنان والد غسان، وبين نسائه اللاتي كانت له مع كل منهن علاقة ما. فهذه المقارنة تشعره بأنه "يفتقد حقاً وجود امرأة من هذا النوع في حياته. إذ لم تكن كميلة ذات حظ من الإدراك بحيث تبعث في حياتهما الزوجية التوازن والإستمتاع، وكانت آديل حبيبة من الأثير لا يمكن أن تستقر مع مخلوق فانٍ مثله" أما فتحية فهي، رغم ذكائها، فتاة من العامة لا تملك إلا جسداً شاباً وحاراً" وبذلك سندس وحدها، هذه المرأة الهادئة المبتسمة، هي القادرة على تضميد جراحه وإنقاذه.."، ولكن هذا الحلم لن يتحقق، ليس سوى لأن توفيق هذا يرى في كل امرأة منقذاً. وفي محاولة لتبرير حبه غير الطبيعي للجنس وممارسته، حين تداعبه فتحية قائلة أنه فاسد لأنه لا يفكر إلا بذلك العمل "كأن الدنيا خلت من الأحزان والناس المساكين الذي يُقتلون ظلماً"، يقول إنه بالعكس يحب ذلك العمل لينسى هذه الأمور السوداء. ويجدر بالإشادة أيضاً هذا الوصف المتكرر، ولكن المختلف، للممارسات الكثيرة والمتكررة، كل مرة في صورة ولغة ومفردات متقاربة، ولكنها تمنح الإحساس بالإختلاف، ولا تُشعر القارئ بأن ثمة تكراراً لعملية واحدة. وهنا تتدخل اللغة المشغولة بدقة وجمالية عاليتين لتأخذ الصور في اتجاه بعيد - إلى حد كبير - عن الإثارة المبتذلة، ليظل عنصر التأمل في كل هذه الممارسات الجنسية هو السائد، وليظل أيضاً عنصراً فاعلاً في تعرية الكثير من أوبئة المجتمع والأفراد وكشفها، وعلى رأسهم البطل المثقف، وهذه الذكورية الدافعة نحو انهيارات إنسانية يتحمل الذكر مسؤوليتها الأولى.