عندما أخذتُ أتنبّه الى الاشياء من حولي، كنتُ أشعر بأنني أحيا في عالم لغوي، عالمٍ لا نكتشفه أؤ لا نتعرّف به الا من خلال اللغة. اللغة والطبيعة الريفية. فيهما حاولت أحلامي ورغباتي ان تتلمّس سبلاً وفضاءات لها. ولم يكن لي خارجهما سوى الخجل والخوف. كنتُ عازفاً في صباي أو منذ صباي عن الناس. وكان لي - اضافة الى طبْعي وميولي الانطوائية - ما جعلني نافراً بينهم. كنتُ طويلاً جداً منذ أوائل الصبا، فأنا لا أذكرني الا طويلاً. وكان هذا الامر يجعلني على مسافة أو بُعد من الآخرين، وخصوصاً الفتيات اللواتي كنت أراهنّ في قريتي الصغيرة، أو في المدرستين اللتين ذهبتُ اليهما تباعاً في المرحلتين المتوسطة والثانوية، وكانتا في بلدتين كبيرتين في منطقتنا الجنوبية من لبنان. بدأتُ محاولاتي الأولى في كتابة الشعر في سن مبكّرة، في الثالثة عشرة تقريباً. وكنتُ قبل ذلك قد نشأت على شغف بالشعر وحفظتُ الكثير منه. والفضل في ذلك يعود الى جدّي اولاً، والى أبي ثانياً. لقد طرقتْ مسامعي في مراحل الطفولة قصائد هي من عيون الشعر العربي. لم أفهمها أولاً، الا ان ايقاعاتها سرتْ في حواسي، ولا بدّ انها ساهمت في تكويني. لا أدري كيف راح يتنامى لديّ - منذ صغري - شغف باللغة. أعرف انه كان مقترناً بحبي للشعر وإلمامي بموسيقاه. ولكنني لم أتبيّن في صباي ما الذي دفعني الى الآخر: الشعر أم اللغة. وعندما بدأت محاولاتي في النظم، كنتُ مدفوعاً برغبتي في امتلاك اللغة والتصرّف بها. لقد بدا لي ان الشعر ليس سوى حبّ اللغة، وان تأليفه ليس الا تعبيراً عن معرفة بها أو وقوف على بعض أسرارها. كنت أجدني مسحوراً حيال العبارات الصعبة أو الغريبة التي أسمعها أو أقرأها في هذه القصيدة أو تلك من دواوين المتنبي وأبي فراس وأبي نواس. ذكرتُ دواوين هؤلاء الشعراء الثلاثة، لانني أتذكر - على نحوٍ خاص - وجودها في مكتبة أبي، الى جانب المعلقات بشرح الزوزني. كان سحر الطبيعة موازياً لسحر اللغة. كنتُ أخطو على أرضٍ أحسبها تتنفّس في خطواتي. وكانت السماء قريبة جداً، أحسبها تهبط لكي تعانقني. وبين هذه وتلك، كانت تتنفّس شهواتي المتعثرة. لا أستعيد نبض شهواتي الأولى الا مختلطاً بعبق الارض وتموّجات الحقول. أذكر ان فتيات القرية كنّ يعملن إجمالاً، وكانت زراعة التبغ هي الرائجة في منطقتنا، وكانت المفاتن الأنثوية لا تتمثل لي الا على صور نساءٍ ذاهباتٍ الى الحقل أو عائدات منه. كنتُ أهفو الى نساء مكتملات يكبرنني بهذا القدر أو ذاك من السنوات. وكان يصادف احياناً أن ألتقي بإحدى الفتيات من بنات جيلي تحت شجرة أو عند منعطف، فتنحبس رغبتي أمام حواجز من الخجل والخوف، ولا يظهر مني سوى التلعثم، ثم أعود بالكثير من مشاعر الخيبة والسخط. اللغة مأواي الآمن، والشعر متنفّسي الأثير، والطبيعة فضاء لشهواتي المتعثرة. هكذا كنتُ في السابعة عشرة من عمري، أتفتّح بحذرٍ لا أدري كنهه، أمشي مفتوناً ولكن كالحائر أو المتردد. وعلى نحوٍ كهذا، كان لي تعاطٍ بالشؤون السياسية والوطنية. أذكر ان هذه الشؤون كانت تجد في منطقتنا جوّاً من الحماسة والحيوية، على الرغم من الشعور بالهزيمة الذي كانت قد أشاعته الحرب في العام 1967. في الثامنة عشرة، انتسبت الى الجامعة في بيروت لدراسة الفيزياء. وهذا النوع من الدراسة لم يصرفني عن الاهتمام بالشعر وكتابته. وكنتُ في هذا الوقت قد بدأت أتعرّف الى الشعر الحديث وأقرأ نصوصاً منه، وأوّلها على ما أذكر للسياب وعبد الصبور. والطريف ان هذين الشاعرين اللذين أحببتهما مثّلا بالنسبة الي نموذجين مختلفين في علاقتيهما باللغة: الاول بدا لي حريصاً على المتانة والجزالة، بينما بدا لي الثاني متهاوناً نوعاً ما حيال اللغة. في هذه الفترة، كنتُ أشعر بانني أدخل مرحلةً جديدةً من حياتي، في جميع المجالات. ورحتُ أشعر خصوصاً بان الشعر ليس نحْواً وأوزاناً فقط، وإنما هو تجربة أكثر تعقيداً، وأشدّ حيويةً واضطراباً. كانت بيروت في أوائل السبعينات عالماً جديداً بالنسبة اليّ. وكانت الكلية التي انتسبتُ اليها كلية التربية في الجامعة اللبنانية متميزةً بين كليات الجامعة. كانت تضمّ نخبة الطلاب الذين يدخلونها بعد اجتيازهم مباراةً لم تكن بالهيّنة. وكانت معتركاً حيوياً لمختلف الاتجاهات الفكرية والسياسية والوطنية. فيها، وجدْتُ نفسي وسط عالم واسع، ولم يكن سهلاً عليّ اقامة العلاقات الجديدة. بقيتُ على شيء من البُعد والحذر، وإن كان جوّ الجامعة قد راق لي، وأمدّني بدفعةٍ من التحفّز. هذا الجوّ كان فريداً حقاً. كان أفضل تعبير عن الميزة الاساسية لتركيبة المجتمع اللبناني: التعدد والتنوّع في مناخٍ من حرية التفكير والتعبير. هذه الميزة ما فتئت ان اصبحت مهددةً فيما بعد، مع اندلاع الحرب ابتداء من العام 1975. بعد تجاوزي الثامنة عشرة بقليل، شرعت بكتابة اعترافاتي، متأثراً باعترافات جان جاك روسو، التي قرأتها منقولةً الى العربية. لا أدري لماذا أعجبتني في اعترافات روسو تلك النزعة الى "ادانة الذات". بدا لي - من يومها - ان الادب يقوم في جانب كبير منه على تشفّي الأديب من نفسه، على نحوٍ أو آخر. والتشفي - كما بدا لي - لا يقف عند حدود البوح أو الصدق في التعبير عن تجربةٍ شخصية، وانما يتعدى ذلك الى شيء من التضخيم أو التهويل في فضح تلك التجربة، أو العبث بها وبأسرارها. عندما قرأت اعترافات روسو، لم يكن لديّ من التجارب ما يخوّلني الخوض في حفلة اعترافاتٍ مشابهة. ولكني مع ذلك أقدمت على المحاولة، محاولة الكشف عما تحصّل لي من تجارب بسيطة، وذلك في مستويات عدة، منها ما هو عائلي، ومنها ما هو ثقافي، ومنها ما هو سياسي، ومنها ما هو عاطفي... الخ. خلال محاولتي البسيطة تلك، شعرت بأنني لا أملك مادةً كافيةً أو مثيرة، ولكنني كنت أشعر - في الوقت نفسه - بأنني إذ أحاول الكتابة على هذا النحو، إنما أحتفي بذاك النوع من التعبير الادبي، الذي يرمي الى فضح الذات أو تعريتها أو إدانتها... أو الى ما شابه ذلك. وقد تراءى لي ان الكاتب أو الأديب إنما يتلذذ في مثل هذا الاتجاه من الكتابة. كأنه إذ "يعترف" ويبالغ في اعترافه يصبح قادراً على ان ينظر الى ما تبقى من نفسه عارياً شفافاً نقياً، فينتشي بذلك، لأن البوح قد خلّصه من أعباء ثقيلة، هي أعباء التكتم أو التستر. هذا ما اعتقدت به أو توهمته، ثم وجدت نفسي آخد به في كتاباتي الشعرية. ومع انه ظلّ بالنسبة الي وجهاً مفضّلاً من وجوه الكتابة، فانني رحتُ أستشعر بخطورته عليّ خارج الكتابة. ذلك انني رحت أتبيّن، يوماً بعد يوم، انه بات يطبع تصرفاتي بعامة، اي انه صار ميزةً من مزايا سلوكي في الحياة. الخطورة التي أشير اليها تتمثل في نزعة كانت تتنامى لديّ منذ الصغر، هي نزعتي الى ان أكون واضحاً تجاه الآخرين. كان يؤرقني أن أظهر - ولو على سبيل المصادفة - ملتبساً حيال أي شخص تجمعني به علاقة أو صلة معينة. لست أدري لماذا تملكتني تلك النزعة، ولكنني أذكر انني كنتُ مبتهجاً بها، خصوصاً لانني كنت أعلم انها ليست عامة أو شائعة، بل هي استثنائية أو نادرة. ولكن لماذا أصفها بالخطرة؟ بتُّ أعرف الآن ان نزعتي تلك عرّضتني، ولا تزال تعرّضني، للاخطار. لقد جرَّت علي اساءات، أنا سببتها لنفسي. بتُّ أعرف ان السبب في ذلك هو أنني - من خلال تلك النزعة - إنما حاولتُ ان أوصل الصخرة، صخرة سيزيف، الى قمة الجبل. كيف أكون واضحاً في عالم غامض؟ كلّ ما فيه غامض: الناس، والأشياء، والعلاقات، والافكار، والمشاعر... وغيرها وغيرها دون استثناء. اصطدم بالعالم، وأعود لأبحث عن نفسي في الكتابة. كنتُ وما زلتُ أكافح كي لا أتنازل عن نفسي التي أجدها في الكتابة، عندما أواجه المحيط الذي يقع خارجي. ولهذا كنت وما زلتُ أصطدم بذلك الخارج، ثم أرجع يائساً. أضعف أحياناً، فأقول انني لا اُحسن فهم الخارج وما يحكمه من اعراف أو يشكله من علاقات. كأنني بذلك إنما أسعى الى ايجاد المسوّغات لخيبتي. ولكن هذا الاتجاه في التسويغ لم يصل بي يوماً الى حد الاقرار بوجوب الخضوع أو التراجع أو المهادنة. لقد ظلّ لديّ دائماً شعور بأن الخلل القائم بيني وبين الخارج هو الدليل على جوهرٍ كامنٍ لديّ، وعليّ الاهتداء باشاراته الغامضة والمترددة. ولكن، كثيراً ما بدا لي انني أعيق نفسي، أو أرتضي لها ان تكون ملجومة خافتة. لماذا ارتضى لها ذلك؟ وأنا لديّ من جهة مقابلة شعور بانني نذرت نفسي لأمرٍ ليس بالهيّن، إن لم يكن بالخطير. هل أقول اذن ان نزعتي الى ادانة نفسي هي في جوهرها نزعة الى إدانة ما عداي؟ شاعر وناقد لبناني