"هذا الفن ينقل لنا شخصيات وأمزجة واتجاهات واحاسيس ومشاعر وعادات وتقاليد ومعتقدات. هو يوضح لنا طريقة حياة". هذه هي الكلمات التي اختارها ايغور موسييف، مؤسس فرقة "موسييف" الروسية للرقص الشعبي ومديرها الفني ومصمّم رقصاتها. ابن الرابعة والتسعين هو القلب النابض للفرقة من راقصين، وفنيين وعازفين. لا تتكلم مع عضو من الفرقة وتسأله عن موسييف، إلا وتلمع عيناه وتعكس كلماته مقداراً من الرهبة وكثيراً من الاحترام المشوب بالتعظيم. وعلى مدى اسبوع استمتع جمهور القاهرة بعرض فرقة موسييف على خشبة المسرح الكبير لدار اوبرا القاهرة. وكانت الفرقة قدّمت عروضها في مدينة الاسكندرية. وإذا كان معروفاً ان الاتقان سمة الفنون الروسية، فهي الكلمة الاولى التي تتبادر الى ذهن المتفرج، وهذا طبيعي إذا كان كل من يعرف موسييف يصفه بأنه لا يعرف انصاف الاعمال، وإنما العمل المتكامل. كل ما يجري على خشبة مسرح موسييف محسوب: الحركة، تغيرات الوجوه، ألوان الملابس، الموسيقى، حتى الديكور البسيط الذي لا يخرج عن إطار الخلفية ذات اللون الواحد منتقاة بدقة بالغة. ويخرج الراقصون والراقصات على خشبة المسرح ليقدموا احدث ما صمم موسييف "الطريق الى الرقص" ويجيب فيها موسييف على السؤال الذي طالما كان يوجه إليه عن الوقت المطلوب لإعداد راقص في فرقة موسييف. ويبدأ الجميع في أداء تمرينات راقصة على "البار" بملابس التدريب السوداء، ثم رقصات على الموسيقى الروسية، واخرى على الاوكرانية، واخيراً رقصة بولكا جماعية. ورغم تفاوت قامات الراقصين والراقصات، إلا أن القوام واحد، وتعبيرات الوجه واحدة، والحركات واحدة كذلك. وتقدم الفرقة رقصات شعبية عدة، فبالاضافة الى روسيا، هناك اوكرانيا، ومولدوفيا، وبلغاريا، وصقلية، واليونان، والارجنتين، وفنزويلا، وحتى من مصر، وهي فقرة اضافها موسييف لعروض الفرقة في مصر. ورغم تخصص الفرقة في الرقص الشعبي، الا ان موسييف بشخصيته المائلة الى التطور والابداع، اكتشف مفاهيم جديدة في الفن، وابتدع اساليب جديدة لتحقيقها. وهذا يتضح في رقصة مثل "المحاربون" وهي من أجمل ما قدّمت الفرقة وصممها موسييف في عام 1955 ليهديها الى قاطني الجبال من مختلف القوميات الذين اتحدوا لمحاربة النازيين، وتقوم الرقصة على موسيقى رائعة وضعها كل من س. غالبيرين وس. كاتز، بالاضافة الى ابداع الراقصين المرتدين معاطف سوداء ضخمة اشبه بالخفافيش الضخمة. وعلى رغم موضوع الرقصة، الذي يدور حول الاعداد للحرب، ثم خوض المعركة، وفي النهاية النصر، وهي فكرة جادة، إلا أنها لا تخلو من روح الدعابة سواء في اسلوب تصميم الرقصة نفسه، او في حركات وتعبيرات بالوجه يقوم بها الراقصون والراقصات. وتتألق روح الدعابة هذه في رقصتين اخريين، الاولى لراقصين متشابكين، وكأنهما صبيان يلهوان، ثم يختلفان، واخيراً يتصالحان، واثناء ذلك يؤدي الراقصان حركات بالغة الصعوبة، وتظل ايديهما متشابكة بشكل معقد طوال الرقصة. الرقصة الثانية - وهي من دون موسيقى - عنوانها "غلامان في معركة"، وهي شبيهة بالاولى، وإن كان الغلامان يرتديان الازياء الشعبية الخاصة بشعب نينيان الذي يقطن الارجاء الشمالية من روسيا، ويمارسان رياضة مصارعة الذراع المنتشرة هناك. وبرع موسييف في تصوير المفاجآت التي تحفل بها هذه الرياضة، وتأتي المفاجأة الكبرى مع نهاية الرقصة حين يتضح ان مؤديها هو راقص واحد فقط يرتدي زي غلامين ويعتمد على قدميه وذراعيه في تمثيل الشخصيتين. وعن مدى تأثره في تصميمه للرقصات بالرقص المسرحي الحديث، يقول: "تأثرت به الى حد ما، فالرقص الحديث جزء لا يتجزأ من الحياة الحديثة". ويشير موسييف الى ان هدفه النهائي كان دائماً ان يخرج بفرقة تستطيع ان تقدم اي فن من فنون الرقص، بما في ذلك الباليه الكلاسيكي، ولكن يبدو ان هدفه ما زال بعيداً. وعن علاقة الشطرنج بالرقص، يقول موسييف: "الشطرنج فن من فنون الابداع والابتكار، وهو يساعدني كثيراً في ابتكار الحركة على المسرح". يقال ان موسييف حازم جداً مع الراقصين، وهو يقول عن نفسه "يجب ان أكون حازماً مع الراقصين، هذه ضرورة لان يخرج الجميع ليواجهوا الجمهور في أكمل صورة". إلتقينا السيد إيغور موسييف في غرفته قبل بداية العرض، لكنه كان وراقص الباليه الروسي لف غولوفانوف 74 عاما منهمكين في لعب الشطرنج، وانتظرنا برهة الى ان ينهي موسييف احدى هجماته ليتفرغ لنا. وبمساعدة الملحق الثقافي في سفارة روسيا الفيدرالية الدكتور اوليغ لفين، قال موسييف: "هذه هي المرة الثانية التي نزور فيها مصر هذا العام، وقد اعددت برنامجاً خاصاً هذه المرة التي نزور فيها دار الاوبرا المصرية احتفالاً بمرور عشر سنوات على افتتاحها". ومن توجيهاته المتكررة، والتي اصبحت اشبه بشعار للفرقة: "لا بد للراقصين ان يكونوا في منتهى الرشاقة والحيوية والجد". والرشاقة والحيوية والجد هي فعلاً ما ينطبق على كل الراقصين والراقصات، الا ان راقصاً شاباً في العشرين من عمره اسمه قسطنطين، كوستيلوف لفت الانتباه ببراعته وبحركاته البالغة التعقيد واحياناً الخطورة واللياقة المتناهية، وايضاً مظهره. فهو قصير القامة، ووجهه شديد الاستدارة، صغير الملامح مما يجعله اشبه بالدمية: يقول: "تعلمت الرقص في استوديو موسييف، ثم انتقلت الى مدرسة موسييف" وقد غرق كوستيلوف في خجله حين سئل اذا كان يعلم انه الافضل، فأجاب بسرعة: "ابذل كل ما في جهدي لأكون على مستوى الفرقة". وهل هناك عقاب يتلقاه الراقص من موسييف في حال الخطأ، يقول: "كلمة توبيخ واحدة من موسييف اقسى من اي عقاب". هذه ليست آخر ميزات موسييف، فهو يصرّ ان تكون عروض فرقته على انغام الاوركسترا الحية، ويرفض اي استخدام لشرائط الكاسيت او الاسطوانات المدمجة مهما بلغت من تقنية عالية ونقاء صوت متناهٍ، وذلك باستثناء مقطوعات من الموسيقى اليونانية او المصرية مثلاً، التي تتطلب الات موسيقية معينة غير موجودة في الاوركسترا. يقول قائد الاوركسترا أناتولي غوس: "الموسيقى الحية المصاحبة للعرض جزء لا يتجزأ من جوانب الابداع في الفرقة، مثلها مثل تصميم الرقصات، والملابس، والديكور، والاضاءة، ومن دونها لا تكتمل اللوحة الفنية". ويؤكد غوس ان هناك علاقة مباشرة بين قائد الاوركسترا والراقصين والعكس، "ويكون الشكل النهائي للعرض نتيجة لهذا التفاعل". ويشير قائد الاوركسترا الى انه احياناً يدخل بعض التغيرات على القطع الموسيقية لا سيما الكلاسيكية التي تستعين بها الفرقة لتلائم نوعية الرقصة المقدمة، لكنه يؤكد ان هذا التغيير يتم في اضيق الحدود، ومن دون المساس بالإطار المحدد للقطعة. لقد احتفلت فرقة موسييف في العاشر من شباط فبراير الماضي بعيدها الحادي والستين، ورغم ذلك فإنها لم تصل الى سن الشيخوخة، بل هي فرقة شابة متجددة، وربما لا يعكر صفوها هذه الايام سوى الازمة الاقتصادية التي تمر بها روسيا، يقول موسييف: "نعم تأثرنا بالازمة، وهذا طبيعي، الا اننا جميعاًً ابناء روسيا وعلى مقدرة كبيرة من التحمّل".