في الرابع والعشرين من الشهر الماضي عقد بواشنطن على مدى يومين مؤتمر للحوار الاقتصادي بين الولاياتالمتحدة الاميركية ودول مجلس التعاون الخليجي للبحث حول سبل التعاون بين الطرفين لتسهيل التجارة والاستثمار بينهما، وما يجب على الدول الخليجية اتخاذه من اجراءات لجعل مجالاتهم الانتاجية والاستثمارية مصدر جذب لرؤوس الاموال الوطنية والاجنبية. وفي كلمته التي القاها في ختام المؤتمر طالب ستيوارت ايزنستات وكيل الخارجية الاميركية مجلس الشركات الاميركية العاملة في الخليج وغرفة التجارة الاميركية بضرورة المشاركة في عملية الاصلاح الهيكلية التي تشهدها دول المنطقة لأنها البوابة التي ستتبلور من خلالها قدرات القطاع الخاص الوطني والاجنبي في مجال تمويل العمليات الانتاجية والاستثمارية التي بدونها لن تتحقق مشاريع تقوية اقتصاديات هذه الدول. وتبدو ابعاد هذه الدعوة منطقية لأن اواصر التعاون بين الطرفين الاميركي والخليجي المتينة والعميقة ساعدتهما في مراحل كثيرة من علاقتهما الوثيقة على تحقيق اهداف مشتركة خاصة على مستوى صيانة الأمن والاستقرار في المنطقة، لذلك كان ضرورياً التركيز على قضية الاصلاح الهيكلي خلال الحلقات النقاشية التي شهدها مؤتمر واشنطن الحواري لأنها تمثل العقبة الأولى في طريق خلق اطار للانفتاح الاقتصادي الخليجي في اتجاه الاقتصاد العالمي يعود بالنفع على جميع الاطراف. هذا الانفتاح اصبح ضرورياً لأن تجارب الاشهر الماضية ما بين دول جنوب شرقي آسيا واليابان وروسيا اكدت بما لا يدع مجالاً للشك ان التطورات الاقتصادية العامة لأي بلد لم تعد بعيدة ابداً عن التأثير في هياكل معظم بلدان العالم الاخرى حتى تلك التي ليست لها علاقة وطيدة بها سياسياً او اقتصادياً او تجارياً او مالياً. وأجمعت المناقشات على ضرورة ان تواصل الدول الخليجية تنفيذ خطط ومشاريع التكيف الهيكلي والاصلاح الاقتصادي حتى لو طرأ تحسن على اسعار النفط، اذ ليس من صالح مجتمعاتها ان تحدث انتكاسة لهذه التحولات كما وقع منذ عامين لأن مثل ذلك التراجع سيكون دليلاً على عدم المصداقية التي ستنعكس اول ما تنعكس على القطاع الخاص ومجالات الاستثمار. وقد دلت تجربة التوقف عن مواصلة مثل هذه الاصلاحات عام 95 بسبب الارتفاع الذي شهدته سوق النفط على ان مواصلة الاصلاح في ظل اسعار متهاودة افضل بكثير من استكمالها تحت ضغط الاسعار المتدنية، لأن الطفرة التي اصبحت السمة المميزة لهذه السوق لا تناسب خطط واستراتيجيات الاصلاح الاقتصادي الجادة الهادفة. فبرغم الجهود الكبيرة المتعددة التي بذلتها الدول الخليجية لتنويع انشطتها الاقتصادية ومصادر مواردها المالية الا ان النفط لا يزال هو القطاع المهيمن على مجالات حركتها ولا يزال النشاط الحكومي هو القوة الرئيسية المحركة لهذا النشاط، لذلك اتجهت جميعها في ظل وطأة انخفاض الاسعار وسلبيات ازمة الدول الآسيوية الى خفض الانفاق الحكومي وتقليص الانفاق على بعض المشاريع الكبيرة ومد فترة الانهاء من مشاريع اخرى الى جانب خفض ميزانياتها الدفاعية. بعدما قطعت بعض الدول الخليجية شوطاً معقولاً في مجال الاصلاحات الاقتصادية، دفعتها طفرة ارتفاع الاسعار التي اصابت سوق البترول عام 95 الى اتخاذ قرار متسرع بتأجيل استكمال السير في هذا الطريق ظناً منها ان الظروف التي دفعتها الى الاقدام على هذه الخطوة قد ولّت الى غير رجعة. وهي الآن مضطرة بسبب ما تعانيه السوق من تدهور متواصل في اسعار النفط الى استكمال هذه الاصلاحات بكل السبل لأنه بحلول عام 2005 ستخضع دول العالم التي انضمت الى منظمة التجارة العالمية والتي لم تنضم اليها، الى سياسات السوق الحرة ومعاملات التبادل التجاري المفتوح للسلع والخدمات كما تحددها اتفاقية هذه المنظمة التي انضم اليها حتى الآن حوالى 135 دولة! الولاياتالمتحدة الاميركية والعديد من الدول المتقدمة تؤمن بأن الاقتصاد العالمي المفتوح هو الضمان الاكبر لاقتصاد عالمي قوي تستفيد منه كل دول العالم وهو العامل الحاسم للتمتع بأمن قومي مستقر، ففي ظل الثورة التكنولوجية وثورة المعلومات التي يعيشها العالم اليوم اصبحت كل القضايا الاقليمية والعالمية ذات تأثير ملحوظ على اركان الدنيا الأربعة. ما وقع في عدد من الدول الآسيوية منذ اكثر من عام سبب انخفاضاً في معدل نمو اميركا المحلي يتراوح بين نصف وواحد في المئة كما رفع من مستوى عجز حسابها الجاري وزاد من عجز ميزانها التجاري، وقد انعكس ذلك في صورة خفض لموارد الدول الخليجية من بيع النفط بنسب تراوح بين 30 في المئة و40 في المئة. وما شهدته روسيا من اهتزازات مالية طوال الشهرين الماضيين انعكس على غالبية اسواق العالم المالية مما ادى الى خفض اجمالي مؤشرات تعاملها خلال فترة الازمة التي لم تنته بعد بنسب تراوح بين 30 في المئة و8.5 في المئة، كما انعكس ايضاً على حركة وأداء المؤسسات المالية الدولية. وإذا كانت الدول العربية تستطيع تطوير امكانياتها الاقتصادية عن طريق تحقيق التكامل التدريجي في ما بينها، فمن السهل على الدول الخليجية ان تقوم بهذه الخطوة لأنه بدونها لن تكون قادرة على التعامل مع الغير بنفس قوة تعاملها مجتمعة معه ولن تكون قادرة على تحسين قدراتها الاقتصادية الحالية. ويتطلب منها ذلك فتح الباب على مصراعيه امام القطاع الخاص ليقوم بدوره في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية بشرط توفير البيئة الاستثمارية التي تتسم بالاستقرار الذي تدعمه التشريعات العادلة والنظام القضائي الفعال والاطر الهيكلية والتنظيمية الحديثة، لأن رأس المال المحلي والاجنبي لا ينجذب الى المناطق التي تتصف بالقلق وعدم الاستقرار وسرعة تبديل القرارات. وفي الوقت نفسه الذي تعمل فيه هذه المجموعة من الدول على توفير المناخ الملائم لتفعيل تشريعاتها وتطوير انظمتها القضائية لمواكبة المستقبل عليها ان تخطط عملياً: 1 - لتقليص حجم الدعم والاعانات التي تقدمها الى شركات المرافق العامة. 2 - الحد من الخدمات الاجتماعية المجانية او التي توفرها بأسعار تقل عن اسعار التكلفة. 3 - القضاء على الفاقد المترتب على القروض الميسرة وطويلة الاجل المدعومة. 4 - فرض ضريبة نوعية على السلع الكمالية مع زيادة التعريفة الجمركية على الواردات. 5 - الحفاظ على اسعار ثابتة ومستقرة لصرف العملات الحرة لتحقيق سيطرة على نسب التضخم ولضمان استقرار ما تتخذه من سياسات نقدية. وتمثل عملية اشراك القطاع الخاص في ادارة جزء او كل مؤسسات القطاع العام الخليجي خطوة هامة جداً في طريق الاصلاح الاقتصادي لأنها تعني تخفيف العبء عن الموازنات الحكومية من ناحية وتمهد الطريق نحو مزيد من الاندماج في الاقتصاد العالمي من ناحية ثانية وتوفر فرص عمل للمزيد من اليد العاملة من ناحية ثالثة. الى جانب ذلك سيعمل القطاع الخاص على تطوير العديد من المرافق والشركات التي يتولى مسؤولية ادارتها وفق قوانين التنافس، خاصة تلك التي يشارك فقط في تشغيلها او صيانتها مثل المستشفيات العامة والمعاهد التعليمية والموانئ والمطارات او التي يتحمل ادارتها لمدد محددة مثل محطات توليد الطاقة او محطات مياه الشرب. اشار مؤتمر واشنطن الى امكانية استفادة الدول الخليجية من تجربة دول مجموعة الپMercosur التي تضم الارجنتين والبرازيل والاورغواي والباراغواي اميركا اللاتينية في مجال تنشيط النمو الاقتصادي في ما بينها وزيادة قدراتها الاقتصادية والمالية كقوة اقتصادية لها وزن ليس فقط على مستوى دول اميركا اللاتينية وانما على مستوى الكتل الاقتصادية حول العالم. الحقيقة التي لا خلاف عليها ان دول مجلس التعاون الخليجي سبقت هذه المجموعة في مجال منح مواطنيها وكياناتها القانونية حق القيام بنشاطات اقتصادية وتجارية ومالية داخل اراضي اي من الدول التي تتمتع بعضوية المجلس، كما يجري التبادل التجاري بحرية تامة بين منتجات هذه الدول في نفس الوقت الذي تعامل فيه الخدمات المالية مثل الاعمال المصرفية والتأمين والنقل في جميع دول المجلس بمثل ما تعامل به في اي من دوله. ويبقى ان ينعكس ذلك على الشركات الاجنبية العاملة في دول الخليج بحيث يكون من حق اي منها ان تتمتع بنفس الامتيازات في كل دولة من دوله اذا كان لها نشاط في احداها فقط، وان يكون من حق ممثليها ان يتنقلوا بين مدن الخليج بعامة وفق نفس التسهيلات التي يحصلون عليها في اي منها. ويواكب الضمان الاكبر لنجاح خطوات الاصلاح الاقتصادي المستهدفة تطوير لأسواق الاوراق المالية في الخليج، لأنه سيؤدي من ناحية الى توسيع مجالات مشاركة القطاع الخاص في العملية التنموية مما يكسبه بعداً اعمق ومسؤولية اكبر، بالاضافة الى انه سيزيد من حجم اصدارات السندات وأذونات الخزانة ويخلق قنوات التدفق الميسر لها في السوق، خاصة بعد ان استفادت منها الحكومات على مدى العقدين الماضيين لتحقيق خطط ومشاريع الاقتراض المحلي. وقيام سوق اوراق خليجية واحدة سيقضي نهائياً على المشاكل التي تعاني منها كل منها على حدة بسبب صغر مجال حركتها وضيق دائرة تعاملاتها، خاصة اذا فتحت هذه السوق ابوابها امام التعامل الاجنبي وأمام المستثمرين في ما بعد وفق الضمانات والضوابط التي تحددها التشريعات التي ستنظم حركة تعاملهم داخلها. ويوجد الاقتصاد المتنوع فرص عمل لا حصر لها لأبناء المجتمع، والاقتصاد المتنوع لا بد له من مصادر تمويل داخلية وخارجية تعززها استثمارات محلية وأجنبية. في عام 1996 شكل سكان دول مجلس التعاون 0.5 في المئة من سكان العالم وكان نصيب مجتمعاتهم من الاستثمارات الاجنبية المباشرة في نفس العام 0.1 في المئة، وهذا الوضع في رأي الخبراء الذين شاركوا في مؤتمر واشنطن الحواري افضل من وضع سكان الدول العربية الذين بلغ عددهم في نفس العام حوالى 3.8 في المئة من سكان العالم ولم يكن نصيبهم سوى 0.16 في المئة من جملة الاستثمارات العالمية المباشرة. ومن هنا تبدو اهمية فتح الابواب امام الاستثمارات المحلية والاجنبية للمشاركة في مشاريع التنمية لأن عصر المساعدات التقليدية القائمة على اساس العلاقات بين الدول انتهى الى غير رجعة، في نفس الوقت الذي تعجز فيه حتى حكومات الدول الصناعية المتقدمة عن ان تحل محل عبقرية القطاع الخاص الذي يسعى بلا كلل لفتح اسواق جديدة، ويعمل على زيادة انتاجيته لتلبية طلباتها وتوسيع طاقته الانتاجية لاستيعاب هذه الزيادة التي تفتح امام المجتمع فرصاً شتى للخلاص من البطالة بخلق فرص عمل جديدة لليد العاملة. ونظراً لأهمية هذا الدور اشار البيان الختامي الذي صدر يوم 25 من الشهر الماضي عن هذا المؤتمر الحواري الهام الى وزن وقوة السوق الخليجية الاقليمية المشتركة من زاوية قدرتها على تسهيل العلاقات المستقبلية بينها وبين منظمة التجارة العالمية حيث سيوفر لها تكتلها شروطاً ايسر لعرض منتجاتها التصديرية مثل البتروكيماويات والالمنيوم على الاسواق الخارجية. ومن المتوقع ان يساعد هذا التكتل التي تتوافر معظم اشتراطاته العديد من الشركات العالمية على الاستثمار في داخل دوله لأنه سيضمن لها اولاً حرية الوصول الى جميع دول مجلس التعاون من ناحية وأسواق المنطقة العربية والآسيوية المحيطة بها من ناحية اخرى. كما اوصى البيان الختامي غرف التجارة الخليجية بالعمل على تحسين مستوى ما تصدره من بيانات تحليلية ومعلومات موثقة بالاضافة الى رفع كفاءة المعايير المحاسبية وقواعد الافصاح عن البيانات المالية لكي تتطابق مع المقاييس العالمية، لأنها من الاساسيات الضرورية لضمان دقة تنفيذ استراتيجيات الاصلاح الاقتصادي من ناحية وكفاءة خطط فتح الأبواب امام الاستثمارات المحلية والاجنبية من ناحية ثانية