لا شيء مثل نيويورك يرد الانسان الى حجمه الطبيعي، ولا أتكلم هنا عن نفسي، فحجمي يرتد اليه من الاتجاه الآخر، وانما عن قادة دول يصولون ويجولون في بلادهم، ويعتقدون أن الشمس تشرق كل صباح عليهم فقط. يوم الأحد في 27 أيلول سبتمبر كان يوماً مثالياً لرد الناس الى حجمهم الطبيعي، فقد كان الرئيس ياسر عرفات ورئيس وزراء اسرائيل بنيامين نتانياهو في نيويورك، ووزيرة الخارجية الأميركية السيدة مادلين اولبرايت، ومعها أركان حربها، يتنقلون بينهما. وكان هناك على بعد أمتار عبر الشارع في الجمعية العامة زعماء من مختلف الدول، من مرتبة وزير فما فوق. كان هذا يوم الأحد 27 أيلول، كما أسلفت، وجلست في الصباح في سريري في الفندق اقرأ "نيويورك تايمز"، التي تعتبر أهم جريدة في العالم كله. تصفحت العناوين، ثم دققت فيها، وعدت اليها من جديد، وتأكدت من انني اقرأ عدد ذلك اليوم بالذات، لا عدد أحد سابق. واكتشفت ان أهم جريدة في العالم تخلو ذلك اليوم من أي خبر عن الأممالمتحدةوعرفات ونتانياهو واولبرايت معهما، وقادة من 180 دولة. خلا القسم الأول، أي السياسي، من أي خبر عن العرب والاسرائيليين، بل خلا من اشارة موجزة إلينا وإليهم. وتصفحت قسم المجتمع ووجدت ان هناك أخباراً عن حوالى 20 حفلة، من افتتاح فيلم أو عرض أزياء أو معرض صور، ولكن من دون ان تستطيع أي حفلة شرفها أبو عمار بحضوره، أو نكبها نتانياهو بلؤمه، ان تكون من ضمن الحفلات التي رأت "نيويورك تايمز" انها تستحق التسجيل. وأقول "اللهم لا شماتة" لأنه إذا كانت "نيويورك تايمز" نفسّت غرور نتانياهو وكسرت خاطر أبو عمار، فهي تركتني، كصحافي، ومشاعري تتراوح بين الحسد والعُقد. الصفحات الأولى كانت عبارة عن عمود من الأخبار، وسبعة أعمدة من الاعلان. وزادت الاعلانات في الأقسام التالية، وخالط الجريدة ملاحق اعلانية ملونة كبيرة وصغيرة. وتوقفت أمام الاعلانات المبوبة فقد ملأ ركن وظائف شاغرة 24 صفحة، أي أكثر من عدد العاملين في بعض بلادنا. وكان قسم العقارات في 34 صفحة أكثرها اعلاني، وبعده قسم السفر والسياحة، أيضاً في 34 صفحة. وطبعاً كانت هناك المجلة الملونة، وهي وحدها تستحق 2.5 دولار ثمناً لعدد الأحد ثمن العدد في أيام الاسبوع الأخرى 60 سنتاً. ووجدت في المجلة هذه تحقيقين عن موضوع واحد، ربما كان مؤشراً على أهم أسباب نجاح مثل هذه الصحف مهنياً. الموضوع هو سقوط بعض الصحافيين الأميركيين، مثل ستيفن غلاس، من مجلة "نيو ريببلك"، وباتريشيا سميث ومايك بارنكل من جريدة "بوسطن غلوب" وجيمس هيرش، وفريق كامل من منتجي برامج سي. إن. إن. وبعض جرائم هؤلاء الصحافيين واضح، مثل اختراع بارنكل شخصيات وهمية ونسج قصص باكية حولها قبل سنوات طويلة تعرضت "واشنطن بوست" لاحدى أكبر الفضائح في تاريخها العريق، فقد نالت احدى مراسلاتها جائزة بوليتيزر عن سلسلة من التحقيقات عن أطفال مدمنين، ثم تبين ان الأطفال من صنع خيال المراسلة. غير أنني توقفت أمام "جريمة" هيرش، فهي لا تكاد تكون جنحة، وخلاصتها انه كتب يقول ان "نيويورك تايمز" لم تعلق على قضية بارنكل، أو فضيحته مع انها علّقت، فصدر الحكم بادانته صحافياً. وقلت لصحافي أميركي أعرفه ان القرار جائر، فنبهني هذا الى أن "بوسطن غلوب" جزء من مؤسسة "نيويورك تايمز". ومع ذلك لم أر جريمة كبرى. ماذا سيحدث لو أن الصحف العربية طردت كل صحافي يخطئ؟ اعتقد أنها كانت من دون صحافيين. الصحافة الغربية تخطئ وفيها نظام للتدقيق، أهونه مراجعة الاسماء والأرقام. ولكن بعض الصحف والمجلات يصرّ على مراجعة الخبر كله، وعنده جيش من المدققين مسؤول عن مراجعة كل كلمة في الخبر. لذلك كان موضوع أحد التحقيقين اللذين قرأت عن الصحافيين الساقطين ان التدقيق الشديد يجعل المراسل يتراخى، ويهمل في عمله، ادراكاً منه أنه لو أخطأ لوجد من يصحح له. في الصحافة العربية ليست عندنا هذه المشكلة، فالتدقيق بدعة، أو ضلالة، أصحابها في النار. على الرغم من كل ما سبق تنشر "نيويورك تايمز" كل يوم تقريباً تصحيحات على ثلاثة أعمدة في صفحتها الثانية، قد تنخفض الى عمودين، إلا أنها هناك، كجزء دائم من العمل الصحافي. ومرة أخرى، لو قررت الصحف العربية تصحيح ما تنشر، خصوصاً بيانات السياسيين العرب، ماذا سيبقى منها؟ اعتقد انها كانت ستنشر عدداً يوماً، وتصحيحه يوماً آخر. نيويورك ترد السياسيين الى حجمهم الطبيعي، حتى لو كان هؤلاء من نوع نتانياهو بما فيه من صلف وغرور وتعصب. و"نيويورك تايمز" ترد الصحافي العربي الى حجمه الطبيعي، وتعلمه كيف تكون الصحافة الحقيقية. واسأل: متى نبلغ هذه؟ وأنا أدرك أننا لن نبلغها في عمري.