يفترض أنني أعرف عملي، فأنا لا أعرف أشياء كثيرة، إلا أنني أعرف عملي هذا دراسة وممارسة بالانكليزية ثم العربية، وخبرة في ثلاث عواصم ومدينة في ثلاث قارات. غير أن شكوكاً بدأت تساورني لأنني لا أفهم سقوط الصحافة الغربية، خصوصاً الأميركية، في التصدي لكذب ادارة جورج بوش وهي تخطط لحرب غير مبررة على العراق، ثم لفشلها في الاستفادة من دروس الحرب لتجنب الانجراف مع التيار مرة أخرى. اليوم، الخبر الطاغي على جانبي المحيط الأطلسي هو تعذيب السجناء، ومن كتب المبررات القانونية له، ومن طلبها، ومن نفذها، وهل يعاقب الذين انتهكوا القوانين الأميركية التي تمنع التعذيب. الموضوع مهم ولا جدال، غير أنني لا أفهم أن يكون تعذيب بضع مئة معتقل من أبو غريب الى غوانتانامو، مروراً بالمعتقلات السرية لوكالة الاستخبارات المركزية، أهم من تزوير أسباب حرب قتلت مليون عراقي، وعشرات الألوف في أفغانستان وباكستان، وزادت الإرهاب حول العالم وهي تحاربه. الصحافة الأميركية تحتاج الى نصر يعيد اليها القراء، وربما الإعلانات، بعد هجمة التكنولوجيا التي تؤذن بنهاية الصحافة الورقية. وإذا تحدثت عن «نيويورك تايمز» تحديداً فأنا لا أنتقد وانما أشكو، لأنني أعتبر «نيويورك تايمز» أهم جريدة في العالم، كما تقول هي عن نفسها، وهي لم تقم بالمهمة المتوقعة عشية الحرب، وانما أفسحت صفحتها الأولى لأمثال جوديث ميلر، ولم تعوض عن التقصير بملاحقة عصابة الحرب لتحويل المسؤولين عن نشر الموت والدمار في الشرق الأوسط الى المحاكم كما يستحقون. لا يجوز أن أنتقد جريدة فازت لتوها بخمس جوائز بوليتزر، ولديها أهم مجموعة من الجوائز الصحافية في العالم، وأنا لا أفعل، وانما أحرض على ملاحقة المتهمين، ثم أزعم أن قضية في مستوى أوراق فيتنام أو فضيحة ووترغيت قد تساعد الصحف على وقف النزيف قراء واعلانات. شركة «نيويورك تايمز» تملك 18 جريدة بينها «بوسطن غلوب» التي قد تغلقها الجريدة الأم بسبب خسائرها المتزايدة. وقد أعلنت الشركة أخيراً أنها خسرت في الأشهر الثلاثة الأولى من هذه السنة 74.5 مليون دولار، في مقابل 335 ألف دولار في الفترة نفسها من السنة الماضية. وهي كانت تلقت دعماً بمبلغ 250 مليون دولار من البليونير اللبناني المكسيكي كارلوس سليم، ثم رهنت مبناها التاريخي، وأخذت تبيع بعض شركاتها. والمشكلة ليست مع جريدة واحدة، و «واشنطن بوست» تخسر أيضاً، وهي تعيش على دخل شركات أخرى تملكها. أما جريدتا شيكاغو، «صن تايمز» و «تربيون» فهما في الفصل 11، وهو خطوة تسبق الافلاس، وهدفها حماية صاحبها من هجوم الدائنين عليه، كما أن «لوس انجليس تايمز» و «سان فرانسيسكو كرونيكل» في حكم المفلستين. لا أزعم أن سبب صعوبات الصحافة الورقية الأميركية هو الحرب على العراق، وانما التكنولوجيا التي تهدد أيضاً صحف كل بلد غربي، ففي فرنسا الدولة دعمت الصحف، إلا أن هذا قد يُقبل في بلد ذي خلفية اشتراكية مثل فرنسا إلا أنه «كفر» في معقل، الرأسمالية العالمية، أميركا. وفي بريطانيا خسرت الصحف سنة 2008 حوالى سبعة في المئة من مبيعاتها و18.8 في المئة من دخلها الإعلاني، ويتوقع أن تكون هذه السنة أسوأ كثيراً. في غضون ذلك أجد أن هذه الصحافة التي تعلمنا عليها ومنها ولا نزال، تشغل نفسها والقارئ بتعذيب السجناء والى درجة أن يطغى الخبر على مراجعة المئة يوم الأولى لباراك أوباما في الحكم، كما هو التقليد مع كل رئيس جديد. في السنتين الأخيرتين لاحظت مع كثيرين ان المدونات (بلوغز) سبقت الصحافة التقليدية في بعض أهم «الخبطات» الصحافية، وألاحظ اليوم أنه مع التركيز الهائل على تعذيب المعتقلين، وكأنه أهم خبر في الحرب على العراق، فالمدونات لا تزال تنافس وتفوز أحياناً، وافضل مراجعي عن الموضوع في الأسبوع الماضي كان «هفنغتون بوست» حيث كتبت أريانا هفنغتون بموضوعية واستضافت كتّاباً بارزين، وكان موقعها الالكتروني أكثر ليبرالية من «نيويورك تايمز» التي تفسح صفحاتها للرأي الآخر، مع أن صحف اليمين المتطرف وليكود الأميركي لا تستضيف ليبراليين. وكنت لاحظت ان اندرو روزنتال، رئيس صفحة الرأي في الجريدة قريب من المحافظين الجدد، واعتقدت أن تجربته مع وليام كريستول الذي لطخ صفحة الرأي بسمومه ثم اختفى، درس كافٍ، إلا أنني فوجئت الأسبوع الماضي بكاتب يميني آخر يستضيفه روزنتال هو روس دوثات الذي بدأ بمقال عنوانه «تشيني رئيساً» إلا أنه بدا وكأنه «يميني لايت»، وأكمل غداً.