إذا كانت المومياوات المصرية نجت من السرقة في العصور القديمة، ومن الغزوات الاجنبية التي تعرضت لها مصر عبر تاريخها الطويل، فإنها لم تنج من ذلك الجشع الغربي عموماً والاوروبي بخاصة لنهب الآثار المصرية، فاستشرت في مصر من قبل الأوروبيين عادة نبش القبور وانتزاع المومياوات من أجداثها، والتي كان يُصنع منها مسحوق له فاعلية فائقة في تجديد حيويه كل شيء، حتى إن الإنكليز انفسهم قاموا في بلادهم بتشييد "طواحين المومياوات" تلبية للطلب المتزايد على هذا المسحوق. كانت المومياوات أول ما يجذب الاجانب ويلفت نظرهم لزيارة مصر وتجيء أولى الاشارات الى المومياوات عند ابي التاريخ المؤرخ الاغريقي هيرودوت في بداية القرن الخامس قبل الميلاد، وتبعه المؤرخ ديودور الصقلي في القرن الأول قبل الميلاد. ووصف هؤلاء المؤرخون الكلاسيكيون في كتاباتهم طريقة تحنيط المومياوات عند زيارتهم مصر، والتي كانت ما تزال تُمارس حتى وقت زيارتهم، ليس من باب الفضول المعرفي وإنما كأحد المظاهر الحضارية العظيمة الأهمية لهذه الحضارة العريقة. وفي وقت متأخر نوعاً ما، بدأت المومياوات تكتسب الأهمية عند الغرب الذي كان بعيداً عن الغرض الاساسي لتلك المومياوات والخاص بدفن أجساد الموتى، والذي من اجله قام المصريون القدماء بتحنيطها. وانصب اهتمام الغرب على المومياوات ليس لأهميتها الأثرية والمعرفية ومعرفة كيف توصل المصريون الى فنية التحنيط الفائقة تلك، بل نظراً لادعائه بخواص المومياوات الطبية المتميزة. ويبدو أنه حدث لبسٌ بين الراتينجات السوداء المستخدمة في عملية التحنيط وبين مادة القار، والتي تحتفظ في رأي الغربيين بقوى علاجية، دفعت الأوروبيين الى المجيء الى مصر، لجلب المومياوات التي اصبحت السلعة التجارية الأولى في اوروبا، وتصدرت واجهات اشهر محال الصيدلية الاوروبية خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين. ويذكر المؤرخ العربي الشهير عبداللطيف البغدادي القرن الثاني عشر الميلادي كيف ان مادة القار تتدفق من قمة جبل المومياء في فارس ايران وعند خلط هذه المادة بالماء فإنها تعطي رائحة تعتبر مفيدة عند استنشاقها، وتكون أكثر إفادة لأمراض مؤكدة، عندما تؤكل. واستمر هذا الاعتقاد سائداً على نطاق واسع خلال القرن التاسع عشر. ومما يذكر في هذا الصدد ان ملك فارس ارسل الى ملكة انكلترا الملكة فيكتوريا كميات صغيرة جدا من كنز القار المدّخر في جبل المومياء في فارس. وفي بدايات العصور الوسطى اصبح استخدام المومياوات كدواء شيئاً مؤكداً وشديد الانتشار، ويرجع السبب في ذلك الى الفيزيقي العربي اليهودي "المجر" القرن الثاني عشر الميلادي في الاسكندرية. وعلى الفور تلقف الغرب هذا الاكتشاف واقره على وجه السرعة، وبدأت كلمتا "MUMIE" و"MUMIA" تظهران بكثرة في النصوص اللاتينية. وكان استخدام مسحوق المومياوات انتشر من قبل في العلاجات الطبية القديمة في الشرق والغرب على السواء. فهذا عالم الفيزياء والادوية الاغريقي ذائع الصيت ديو سقوريدس 40 - 90م يوصي باستخدام مسحوق المومياوات كعلاج لعدد غير قليل من الأمراض. ويأتي من بعده الفيزيقي والعالم الفارسي المعروف "أفيسنا" 980 - 1037م ليوصي باستخدام ذلك المسحوق ايضا لعلاج اكثر من مرض، مثل الخراريج، والطفوح الجلدية، وكسور العظام والإرتجاجات الدماغية والشلل، وامراض الدم، والصرع والدوار، وانبثاق الدم من الرئتين والحناجر والسعال والغثيان والقرح والسموم واضطرابات الكبد والطحال، وكان يؤخذ هذا المسحوق مخلوطا بالاعشاب غالبا مثل العترة والزعتر والبلسان وغيرها. وبالاضافة إلى استخدام هذا المسحوق في الشفاء من الامراض فإن البعض أوصى ايضا باستخدامه كطعم لصيد الاسماك! وفي العام 1694م، يوصي بيير بومي بأن يختار المرء المومياء المرادة بعناية، فيجب ان تكون سوداء، من دون عظام او رماد، وذات رائحة زكية، ومن بعض شيء محروق وليس من القار أو الراتنج. وكتب العديد من الكتّاب في اعمالهم الطبية والصيدلية عن أهمية المومياوات مثل فرنسيس بيكون 1561 - 1626م الذي أكد اهمية الخواص الطبية لمسحوق المومياوات إذ يقول "إن لمسحوق المومياوات قوة عظيمة في وقف نزيف الدم". وأصبحت المومياوات المسحوقة، من المخدرات المهمة في اوروبا، ففي العام 1549م، يقوم اندريه تافي، قس قصر كاترين دي ميدس بسرقات عدة في سقارة بحثا عن المومياوات المطلوبة لعلاج سيدته. حتى أن فرنسيس الأول حاكم فرنسا لم يكن يذهب الى أي مكان من دون لفافة مسحوق المومياوات المخلوط بالراوند المسحوق في جيبه، حتى يستخدمها في حال سقوطه او تعرضه لأي ايذاء جسدي. وفي العام 1564م، يذهب الفيزيقي جي دي لافونتين الى الاسكندرية لشراء اكبر عدد من المومياوات الحاجته الملحة إليها في العلاج. وفي هذا الوقت بالذات كانت الإسكندرية المركز الرئيسي لكل تجارة تجريها اوروبا مع مصر، وتأتي تجارة المومياوات ومساحيقها في قمة الصدارة من دون شك. وكان يهود الاسكندرية هم الذين يقومون على أمر هذه التجارة من دون غيرهم، فاحتكروا اسرارها وكانت لهم المصادر الممولة متمثلة في رجال يحفرون كل شبر في مصر بحثا عن المومياوات. وبدخول أوروبا العصور الوسطى وعصر النهضة، اصبحت المومياوات اكثر شعبية، وكثيرا ما اشير اليها في الاعمال الادبية لهذه الفترة مثل مسرحتي "روميو وجوليت" و"عطيل" لوليم شكسبير. وفي الواقع، فإن الجانب الآخر من المحيط، وأعنى الولاياتالمتحدة، لم ينج هو الآخر من سطوة المومياوات المصرية الساحرة. فبعض القصص السحرية في نيويورك وفيلادلفيا ما يزال يزود ب"رماد المومياوات" كأحد العناصر المهمة في التعاويذ . بل إن فيلم "سنووايت والأقزام السبعة" الذي انتجته افلام والت ديزني للرسوم المتحركة لم يخل هو الآخر من ذلك التأثر بالمومياوات المصرية. وبداية من القرن السادس عشر الميلادي فصاعداً يأتي الاجانب لزيارة مصر لرؤية المومياوات في ارضها الطبيعية خصوصا منطقة سقارة الزثرية الأثرية بالمومياوات. اذ كان يوجد في سقارة العديد من الاهرام والمقابر ذات الحجرات المتعددة الواسعة والممرات الكبيرة الممتدة والتي كانت مملوءة بالآف المومياوات. وكانت مصر في نظر هؤلاء الاجانب كنز المومياوات الهائل الذي لا ينضب ابدا وفي بداية القرن التاسع عشر الميلادي، ينجح لاعب السيرك المغامر الايطالي جيوفاني بلزوني 1778 - 1823م في العثور على العديد من المومياوات الآدمية والحيوانية لعدد من الثيران والأبقار والقطط والتماسيح والطيور، في المقابر التي نبشها. وشحنت الحملة الفرنسية على مصر والشرق بقيادة نابليون بونابرت 1798 - 1801م أعداداً كبيرة من المومياوات الكاملة الى متحف "اللوفر" في باريس وكان من المقرر دفن هذه المومياوات - لا عرضها متحفياً - في حدائق قصر قريب من طريق برولت، لكنها دُفنت اخيرا اسفل سجن الباستيل مع ابطال وشهداء 1830م. والشيء المدهش ان نابليون بونابرت نفسه وزوجته جوزفين أخذا رأسي مومياويين فُضلا عن جسديهما وكانا لرجل وامرأة. وفي العام 1833م، كتب الأب غرامب الى محمد علي باشا والي مصر مستنكرا ما يحدث للمومياوات المصرية من نهب متواصل على أيدي الأوروبيين في ظل وإهمال وتراخ من السلطات المصرية غير الحريصة على الحفاظ على تراثها العريق" وختم رسالته قائلا "يا سيدي .. ان العائد من مصر الى أوروبا، لا بد ان يعود حاملا في يمناه مومياء وفي الاخرى تمساحا !!" ولم يكتف الاوروبيون بهذا فقط، بل قاموا بنزع أجزاء من المومياوات كالأيدي او الاقدام او الاذرع أو الرؤوس أو حمل المومياء كاملة عند يأسهم وذلك لتزيين مكتباتهم وصالوناتهم الخاصة ولتبقى كذكرى على زيارة قاموا بها الى مصر ذات مرة. ويتعجب ابو علم المصريات الحديث السير وليم فلندرز بتري في كتابه "الاثاث الجنائزي" من ان احد السائحين الانكليز اشترى مومياء من اسوان على انها لمهندس انكليزي مات في مصر، وليس على انها لمصري قديم على الاطلاق. واصبح البحث عن المومياوات ومطاردتها في كل مكان اهم اهداف زيارات الطبقة الارستقراطية في اوروبا لمصر. واثناء الرحلة التي قام بها الامير ادوارد امير ويلز الملك ادوارد السابع في ما بعد العام 1886م لمصر، ادعى انه اعظم مكتشف للمومياوات إذ اكتشف وحده حوالي ثلاثين مومياء من الاسرتين 25 و26 في مقبرة في غرب مدينة الاقصر. وحُملت الأجساد والأكفان الى انكلترا وقُسمت في عدد من المجموعات الخاصة. وكانت هذه المومياوات قد جمعت في بئر بعمق ثلاثين مترا في المقبرة 2005 في دير المدينة في الاقصر وذلك للحفاظ عليها ووجد بها التابوت الخاص بالزوجة الالهية للاسرة السادسة والعشرين "نيتوكريس" وقد عثر على هذه البئر بالفعل. ولم تسلم المومياوات من عبث الرحالة المكتشفين عند زيارتهم لمصر فقام بالبحث عن المومياوات رحالة مشهورون امثال توماس كوك وغيره، بعد ان طالتهم حمى المومياوات ايضا. وبمجرد ان تصل المومياوات الى اوروبا، فإنها تلهب مشاعر الناس وتثير أخيلتهم. ماذا يكون داخل هذه المومياوات القادمة من مصر وماذا تحوي من اسرار. وانتشرت عادة فتح وكشف المومياوات في الاماكن العامة وفي تجمعات كبيرة حتى أصبحت من الأحداث الاجتماعية اليومية، وجزءاً لا يتجزأ من برنامج بهو الاستقبال الرئيسي في قصر الملكة فيكتوريا، لجلب المتعة والتسلية وتسرية أعين النظارة مع توجيه اكبر قدر من الدعوات للطبقة المالكة وطبقة النبلاء والنبيلات ورجال البلاط وسادة المجتمع وكبار رجال الدولة والجيش. وفي 6 نيسان ابريل 1833م اقام المغامر توماس بتغرو صديق المغامر بلزوني احتفالا عاماً بتذاكر في مسرح مستشفى "تشارنغ كروس"ودعا بتغرو الآثاريين والمكتشفين وعلماء المصريات واعضاء البرلمان والفنانين والمؤلفين والكتاب والامراء ورجال الدولة والديبلوماسيين وعلماء الفيزياء وضباط الجيش لحضور هذا الاحفتال الكبير. ولم يكف هؤلاء المغامرين ما ألحقوه بالمومياوات من اعتداء وتدمير وتشويه، بل قاموا باشتقاق زيت خاص بني اللون عرف ب"البني الموميائي" من بقايا المومياوات، استخدم في زيت الرسم، واستخدمه الرسامون في رسم لوحاتهم والتوقيع به عليها. وزادوا على ذلك، ان قام احدهم ويدعى اغسطس ستانوود صانع الورق الاميركي، باستخدام لفائف المومياوات الكتانية في صناعة الاوراق البنية اللون. ومن بعده، راجت تجارة لفائف المومياوات في صناعة الاوراق. ولم تسلم المومياوات الحيوانية من المصير نفسه الذي لاقته المومياوات الآدامية فاستخدمت مومياوات القطط - مثلا وكانت تهرب من مصر الى اوروبا على ظهر السفن، كثقالات لحفظ توازن السفن، وفي تخصيب الأرض الزراعية التي تستصلحها الدول الاوربية. وحرقت المومياوات عوضاً عن الأخشاب غير الموجودة. ويقول الكاتب الاميركي الساخر العظيم مارك توين إن المومياوات كانت تستخدم كوقود لتسيير القطارات. والشيء المثير للانتباه هو ان موظفي المتاحف الاميركية الكبرى مثل متحف المتروبوليتان ومتحف بروكلين كانوا الى وقت قريب قبل 1950م يرفضون دخول المومياوات الى متاحفهم، بحجة انها جثة لا تحمل تصريح دفن او شهادة وفاة . فعلى سبيل المثال رفض احد موظفي متحف بروكلين إدراج احدى المومياوات المصرية ضمن مقتنياته المتحفية. ودخلت المومياء المتحف بعد عذاب وفترة وطويلة من الانتظار وحملت اسم "ملفين" ورغم ذلك فماتزال "ملفين". تبحث عن شهادة وفاتها. وتتبدل الأحوال عند اكتشاف مقبرة الفرعون الصغير توت عنخ آمون في العام 1922م إذ يلقى الممول الإنكليزي المعروف اللورد كارنافون حتفه ملدوغاً ببعوضة معدية فمنذ تلك اللحظة أصاب الذعر والهلع الاوروبيين والاميركان وخشوا لعنة الفراعنة، وأحجموا عن اقتناء الآثار المصرية. حتى إن أحد السائحين الانكليز كان انتزع قطعة حجرية صغيرة من هرم الجيزة الاكبر على سبيل الذكرى وما أن وصل الى انكلترا حتى توالت عليه النكبات فعرف السبب وعلى الفور قام برد القطعة الحجرية الصغيرة الى السلطات المصرية مشفوعة بخطاب اعتذار عما فعل طالباً الصفح والغفران من الفراعنة العظام، ولولا هذا الرعب الذي سببته لعنة الفراعنة لدى الغرب لاستمر مسلسل نهب الاثار المصرية طويلاً. وهكذا كم عانت المومياوات المصرية على ايدي هؤلاء الاوروبيين المغامرين الذين قاموا منذ وقت مبكر بسحقها واستخدام مسحوقها في العلاجات الطبية، وكطعم لصيد الاسماك وللحرق بدلا من الاخشاب وكوقود للقطارات وكثقالات للسفن وزينة للصالونات والمكتبات الخاصة، ولتخصيب الارض الزراعية، واللهو والعبث بها في حفلاتهم الاجتماعية العامة وعرضها مقابل تذاكر للتربح من ورائها. ولم يكن هدف المصريين القدماء عند تحنيط اجسادهم ان يعبث بها هؤلاء المغامرون الاوروبيون وانما كان هدفهم من وراء تحنيطها هو ان تتعرف الروح الى الجسد لتعود اليه ثانية في دورة حياتية أبدية لا تنتهي. وقد أعاق هؤلاء المغامرون دورة تلك الحياة من الاستمرار والازدهار كما رأينا - بأفعالهم غير المسؤولة تلك. * باحث في المجلس الأعلى المصري.