اعترف بأنني لم اشاهد برنامج شهادة كلينتون امام المحلفين وهو البرنامج الذي تحول، كما اراد له واضعوه، تظاهرة جنسية دولية من خلال توظيف شبكات التلفزيون الأميركية والاقمار الصناعية التي حولت دولنا المتفرقة الى "قرية عالمية". وبغض النظر عما يمكن ان يقال عن هذا البرنامج من انه كان مملاً او سخيفاً او فارغاً، وانه كلف الخزينة الامريكية 40 مليون دولار، ما جعله اغلى فيلم "بورنو" في "جمهورية الاعلام". وبغض النظر ايضاً عن الطابع السوقي للذوق والعرض الاعلامي للبرنامج في ظل هيمنة حرية التعبير، التي تصل الى حد التسيب احياناً، وهيمنة الشركات الطاغية التي تمسك بامبراطورية الاعلام الاميركية خصوصاً. بغض النظر عن كل هذا، اذاً، يجب الحذر من السقوط في الشرك الذي نصبه الاعلام الاميركي للرئيس كلينتون ولكل المتفرجين وكأن كل ما حدث ويحدث عبر الشاشة التلفزيونية ليس إلا تظاهرة جنسية. فبمقدار ما يحق للناس ان تعرف فمن "حقها ايضاً ان لا تعرف". لقد صيغت الاسئلة والتفاصيل بطريقة مثيرة ومغرية فغابت من خلالها ومعها الحقيقة المهمة، وهي مثول رئيس اكبر دولة في العالم امام القضاء ولجنة التحقيق في مسألة هي على غاية من الاهمية والخطورة، الاخلاق والسياسة، وان كان كينيث ستار لا يمثل العدالة ولا الحق بمقدار ما انه يمثل التيار الاصولي المحافظ في الولاياتالمتحدة. ان يمثل رئيس دولة امام القضاء وان يتعرض الى المساءلة والمحاورة والتحقيق في قضية قد تبدو شخصية حقاً، هو ما يجب ألا يغيب عن بالنا. يمكن قول الكثير عن الولاياتالمتحدة ومثالب ادارتها وادائها السياسي وتصرفها على الصعيد الدولي، الا ان ثمة حقيقة يجب ان ننتبه اليها وأن ننوه بها، وهي شفافية من يقف في سلم هذه الادارة امام الرأي العام الاميركي والعالمي وعدم حصانته امام المساءلة والمراجعة والتحقيق انسجاماً مع ما يمليه القانون. وهذا لا ينفي ان الاعلام الطاغي مارس هيمنته الكاملة مركّزاً على عنصر الاثارة في الامر مجتاحاً كل الحدود ومحتفلاً بانتصاره على رئيس كان سيد الاداء التلفزيوني ونجماً من نجوم الاعلام الاميركي والدولي. كان كلينتون قد استهتر بهذا الاعلام الطاغي، حتى انه بات ينسحب عليه القول... انه الاعلام يا غبي، فهل كان غبياً حقاً الى هذا الحد، فكذب امام ملايين الاميركيين، وجاهر بأن لا علاقة له بهذه المرأة، لوينسكي، وهو المعتاد على شق طريقه السياسي بكلام معسول ومعالجة ديبلوماسية وعدم حسم أية قضية حتى النفس الاخير. كان واضحاً ان الاعلام لن يمهل كلينتون طويلاً ولن يهمل ما قاله للاميركيين، وكانوا في غالبيتهم وفي قرارة نفوسهم يعرفون انه كاذب. اذا كانت اميركا قد برهنت ان المحاسبة تشكل جزءاً اساسياً من العملية الديموقراطية، حتى على اعلى المستويات، وبرهن الاعلام انه فوق القانون وفوق الديموقراطية لأنه هو سيد الموقف، الا ان كل الدلائل تشير الى ان الرأي العام الاميركي ينزع الى رفض سوقية الاعلام، ويبدي استعداداً للتمسك برئيسه الذي سقط ضحية الاعلام اولاً وقبل كل شيء. واذا كان كلينتون قد سقط ضحية الاعلام، ضحية هفواته الجنسية وضحية كذبه، فهل انقذه الاقتصاد وينسحب عليه قوله "انه الاقتصاد يا شاطر". يذكر ان كلينتون كان قبل ست سنوات قد اجتاح الولاياتالمتحدة بحملته الرئاسية، وتحول خلال شهور قليلة من حاكم اركنسو الولاية الفقيرة الى رئيس اكبر واهم واقوى دولة في العالم. وقد تزامن دخوله البيت الابيض مع انتهاء الحرب الباردة ما اعطى رئاسته دوراً طليعياً في العالم. كان سر هذا النجاح الباهر قد تمحور حول شعار بسيط وسهل "انه الاقتصاد يا غبي" It's The Economy Stupid وجاء رداً على نجاح الولاياتالمتحدة الباهر في الحرب الساخنة في الخليج والحرب الباردة في اوروبا والعالم. واتهم حينها كلينتون ادارة بوش بالفشل الذريع على الاجندة الاقتصادية الداخلية ولو انها حققت نجاحات على الصعيد الدولي. ووعد كلينتون الاميركيين بأن يترجم نجاحات اميركا وعظمتها في مكاسب اقتصادية للانسان العادي خصوصاً للطبقات المتوسطة. وفعلاً نجح كلينتون في تثبيت مستوى نمو مستقر، ورفع اداء الاقتصاد الى درجات مهمة جاءت في جزء كبير منها نتيجة الاستثمار الواسع الذي قامت به اميركا في العشرين سنة الاخيرة في المجال التكنولوجي، ونتيجة فشل اقتصاديات دول آسيوية وأخرى اوروبية بمتابعة نجاحاتها واعادة مركز الثقل الاقتصادي العالمي الى نيويورك بعد هجرة لرؤوس الاموال والعقول والخبرات للولايات المتحدة. واذ جاءت نجاحات اميركا على المستوى الدولي اوتوماتيكية وصبّت في مصلحة كلينتون الذي قيل انه لا يهتم اطلاقاً في الاجندة الدولية، فإن كل ذلك لم ينقذه من نتائج نزواته في البيت الابيض مع نساء كانت آخرهن مونيكا لوينسكي. لقد كانت نجاحات كلينتون على الصعيد الاعلامي باهرة، وهو الذي استطاع ان يوصل حلول الاوضاع الاقتصادية المعقدة بطريقة سهلة ومستساغة وبطلاقة واضحة. لم يغب عنه رقم ولا معلومة عن الاقتصاد وبرهن على الفة ومحبة بل على هوس في هذا الجانب الحيوي. وهذا سيكون الطريق الوحيد لاخراج كلينتون من محنته في الشهور او السنتين المقبلتين، هذا اذا استطاع ان يفلت من ملاحقات الكونغرس والاعلام في الاسابيع المقبلة. ما زال هناك امل لكلينتون لأن الاقتصاد الاميركي لا يزال يتحسن ويتقدم... فهل ستغفر غالبية الاميركيين لكلينتون نزواته وكذبه، لأن مستوى معيشتهم لا يزال في ارتفاع. هنا سر النجاة، لا العراق ولا فلسطين... ولا حتى افغانستان. وعلى هذه القاعدة بدا الجمهوريون في الكونغرس يفكرون في استراتيجية تضعف الرئيس ولو أنه بقي حتى نهاية عهده. واذا كان يمكن الاقتصاد ان ينقذ كلينتون. فهل يمكن ان يفعل ذلك بعيداً عن الاعلام واثره وتأثيره، فيعود الاعلام ليضعنا ومن جديد امام حالة جديدة من العبثية الحداثوية. * كاتب وصحافي فلسطيني. مؤلف كتاب "كلينتون: الحملة الادارية والسياسية الخارجية".