مع مطلع السبعينات كانت الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي يتجهان إلى إعادة ترتيب علاقتهما وتدشين ما أطلق عليه ريتشاد نيكسون "بناء جديد للسلام" يتجاوب مع التغيرات التي حدثت في علاقات القوى في نهاية الستينات، ويتجه بشكل أكثر تحديداً الى الانتقال بعلاقات القوتين من التوتر والمواجهة إلى الحوار والتفاوض والتعاون. وتبلور هذا الاتجاه الذي جاءت به أساساً إدارة نيكسون - كيسنجر فيما عُرف بعلاقات الوفاقDetente التي ما لبثت ان اكتسبت مضموناً من خلال عدد من مؤتمرات القمة التي صاغت - خصوصاً قمتي موسكو في آيار مايو 1972، وواشنطن في حزيران يونيو 1973 - عدداً من الاتفاقات والتعاقدات ومبادئ السلوك فاقت ما توصلت إليه القوتان منذ إقامة علاقاتهما الديبلوماسية العام 1933. لذلك لم يكن غريباً أن صَاحَب قمتي موسكوواشنطن جو من الاستبشار عن اتجاه علاقات الوفاق الجديدة ومستقبلها. غير أنه وسط هذا الاستبشار، وعلى عكس توقع - وربما ما تمنته - القوتان نشبت حرب تشرين الأول، وفي المنطقة التي كانت سياسة الوفاق، خصوصاً في مفاهيمها ودوافعها الأميركية، تهدف إلى دفع الاتحاد السوفياتي إلى المرونة والتعاون مع تطوراتها إلى جانب بقية مناطق التوتر الإقليمي الأخرى وفي مقدمها فيتنام. غير أنه ومنذ بداية الحرب ارتبط الموقف السوفياتي بالتعاطف والتأييد السياسي والعسكري للموقف العربي من خلال الجسر الجوي الذي بدأه يوم 9 تشرين الأول، وإن كان، ومع منتصف الشهر نفسه، بدأ القادة السوفيات تحركهم الديبلوماسي للتشاور والاتصال مع الولاياتالمتحدة، وهو ما بدأ بدعوة بريجنيف لهنري كيسنجر لزيارة موسكو في 20 تشرين الأول. وهي الزيارة التي تم خلالها التوصل الى مشروع قرار قُدم إلى مجلس الأمن في 22 تشرين الأول، يدعو إلى الوقف العاجل لإطلاق النار وتنفيذ قرار مجلس الأمن 242. غير أن نقطة التحول من التشاور والتنسيق، الذي أدى إلى صدور القرار 338، الى احتمالات الصدام والمواجهة بين القوتين، جاءت عندما خرقت اسرائيل وقف إطلاق النار، الأمر الذي أدى إلى تقديم القوتين بمشروع قرار مشترك آخر يدعو إلى الانسحاب إلى مواقع 22 تشرين الأول، وهو ما رفضت اسرائيل أيضاً أن تستجيب له. ودفع ذلك الرئيس أنور السادات الى توجيه نداء إلى كل من واشنطنوموسكو لإرسال قوة سوفياتية - أميركية مشتركة الى الشرق الأوسط للإشراف على تنفيذ قرار مجلس الأمن الثاني وتحقيق الانسحاب الى خطوط 22 تشرين الأول. وبعث بريجنيف بخطاب - لم ينشر - إلى الرئيس الأميركي نيكسون، يبلغه فيه ان على الولاياتالمتحدة أن تقبل هذا الاقتراح وإلا فإن الاتحاد السوفياتي سيتصرف بمفرده بإرسال قواته الى الشرق الأوسط. عقّب نيكسون في ما بعد على هذا الخطاب بقوله: "إننا يمكن أن نصف هذا الخطاب بأنه كان صارماً جداً ولم يترك مجالاً للخيال في ما يتعلق بما ينوي بريجنيف أن يفعله، كذلك كان ردي صارماً جداً ولم يترك مجالاً للخيال حول أسلوب تصرفنا. ولأن كلانا يعرف الآخر، ولأننا أقمنا هذه العلاقة الشخصية، فقد نتجت عن هذا الخطاب المتبادل التسوية لا المواجهة". ولعل هذا يذكرنا بأزمة مماثلة وتصرف مماثل من جانب موسكو خلال أزمة السويس العام 1956، إذ دعا الاتحاد السوفياتي الولاياتالمتحدة لعمل مشترك لوقف العدوان في الشرق الأوسط، واقترح في مشروع قرار قدمه الى مجلس الأمن في 5 تشرين الثاني نوفمبر بأن تقوم الدول الأعضاء في الأممالمتحدة، وفي المقام الأول الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي، بمساعدة ضحايا العدوان الثلاثي بإرسال قوات جوية وبحرية ومتطوعين". كما أوضحت رسالة من رئيس الوزراء السوفياتي بولجانين الى الرئيس الأميركي ايزنهاور هذا الاتجاه بشكل أكثر حين ركزت "أن الحكومة السوفياتية تقترح على الولاياتالمتحدة إقامة تعاون أوثق بعد العدوان ومنع مزيد من إراقة الدماء". إلا أن الولاياتالمتحدة، وقتها، رفضت هذا الاقتراح. أما الاعتبارات الأميركية في رفض المشاركة في قوة مشتركة مع الاتحاد السوفياتي لتنفيذ قرار وقف إطلاق النار خلال حرب تشرين الأول فقد فسّرها كيسنجرر بقوله: "إنه من غير المتصور أن نزرع خلافات القوتين العظميين في الشرق الأوسط أو نفرض سيطرة سوفياتية - أميركية مشتركة، إن الولاياتالمتحدة تعارض أي إدخال إنفرادي لقوات عسكرية في الشرق الأوسط وخصوصاً من قوى نووية بأي شكل وتحت أي ستار". على أنه يبدو - رغم رد الفعل الأميركي هذا - أن ثمة تحركات عسكرية سوفياتية واضحة قامت بها القيادة السوفياتية العليا تركت انطباعاً لدى الأميركيين عن احتمال إقدام موسكو على إقامة جسر جوي لإرسال قوات محاربة الى الشرق الأوسط. وأدى هذا الإنطباع إلى إعلان وزير الدفاع الأميركي شلزنغر يوم 25 تشرين الأول حال التأهب العالميDefconthree للقوات العسكرية الأميركية. وفسر شلزنغر، لاحقاً بواعث الإعلان الأميركي لحال التأهب، بما سجلته الولاياتالمتحدة من: - مضاعفة حجم الأسطول السوفياتي في البحر المتوسط. - إعلان حال التأهب لقوات الإنزال السوفياتية. - إعداد طائرات نقل القوات. غير أنه، ووفقاً لتفسير شلزنغر، فإن السبب الرئيسي لإعلان حال التأهب من جانب الولاياتالمتحدة كان "ديبلوماسياً"، اذ كانت الوسيلة الوحيدة المأمونة للتأكد من أن السوفيات لن يرسلوا قوات. أما رد الفعل السوفياتي على إعلان حال التأهب الأميركي، ورد في بيان اذاعته وكالة "تاس" السوفياتية يوم 28 تشرين الأول جاء فيه: "اتصالاً بالأحداث في الشرق الأوسط ظهرت في واشنطن تقارير عن حال تأهب للقوات المسلحة الأميركية في بعض المناطق، بما فيها أوروبا". وفي محاولة لتبرير هذه الخطوة، أشار الرسميون، الى بعض أعمال الاتحاد السوفياتي التي ادّعوا أنها اثارت قلقهم. إن "تاس" مخولة لأن تعلن أن مثل هذه الإيضاحات هي ايضاحات سخيفة، طالما أن أفعال الاتحاد السوفياتي تهدف فقط إلى دفع تطبيق قرار مجلس الأمن حول وقف إطلاق النار، وإعادة السلام في الشرق الأوسط. إن هذه الخطوة من جانب الولاياتالمتحدة، التي لا تخدم بأي حال الوفاق الدولي، اُتخذت بشكل واضح لإخافة الاتحاد السوفياتي، ولكن هؤلاء الذين وراء هذه الخطوة يجب أن يقال لهم إنهم اختاروا العنوان الخاطئ". غير أنه خلال هذا الجدل، كانت تجري مشاورات وتحركات ديبلوماسية، رفعت خلالها الولاياتالمتحدة بشكل جزئي حال التأهب، وذلك حين وافق مجلس الأمن ومن دون مناقشة تقريباً، على قرار تبنته ثماني دول من مجموعة عدم الانحياز يقضي بأن لا تشارك دول مجلس الأمن الدائمة في قوات حفظ السلام. وفي اليوم نفسه أعلن بريجنيف أن موسكو سترسل ممثلين من الضباط الكبار يرتدون الملابس المدنية، الأمر الذي يبعدهم كثيراً عن التدخل. كما أعلنت الولاياتالمتحدة أنها سترسل عدداً صغيراً من المراقبين اذا ما طلب منها أمين عام الأممالمتحدة ذلك. وهكذا، وكما عبر الرئيس الأميركي وقتها "تلاشت أصعب أزمة واجهت البلدين منذ أزمة الصواريخ الكوبية". وهكذا أيضاً جاءت حرب تشرين الأول أكتوبر لكي تقدم اختباراً حقيقياً لعلاقات الوفاق الجديدة ولحدودها، وان توضح أنها لم تكن تصفية للخلافات الجوهرية في الأيديولوجيات والمصالح التي كانت مازالت تقسّم القوتين أو أنها ألغت عنصر الخصومة في علاقاتهما، وإن كانت الأزمة أوضحت في الوقت نفسه أن العلاقات الجديدة فتحت قنوات من التشاور والتنسيق، كان يمكن، من دونها، أن تأخذ الأزمة أبعاداً أكثر خطورة. وربما كان هذا ما دفع الرئيس الأميركي نيكسون الى القول: "كحقيقة فإنه يمكن القول إنه من دون الوفاق ما كان من الممكن أن نواجه صراعاً كبيراً في الشرق الأوسط، ولكننا تفاديناه بالوفاق"، وان يؤمّن برجينيف على ذلك بقوله: "ان المرء يمكن ان يقول بشكل أكيد، إنه في مثل هذه الحال، فإن المبادرة المشتركة التي رفعت الى مجلس الأمن حول الشرق الأوسط قدمت فرصة لوقف إطلاق النار ربما لم تكن ممكنة من دونها". * كاتب وسفير مصري ساب