هل هي حتمية تاريخية تلك التي تجعل الأمم القوية تبدأ بفقدان قوتها انطلاقاً من اقدامها على مغامرة خارجية، ربما تجر اليها جراً لكنها تقع في الفخ من دون تردد ويكون الأمر وبالاً عليها في النهاية؟ نتذكر هنا، في العصر الحديث، تورط الاميركيين في فيتنام، وهزيمتهم النكراء هناك. ونتذكر بالطبع تورط السوفيات في افغانستان، ذلك التورط الذي يرى الكثير من المؤرخين انه كان السبب الرئيسي في انفراط اتحادهم ومنظومتهم الاشتراكية والنظام الشيوعي بأكمله في العالم. ونتذكر ايضاً، على صعيدنا العربي، تورط مصر الناصرية في حرب اليمن. ذلك التورط الذي انجرّت اليه مصر، من دون تردد ومن دون هوادة، ومن دون ان تدرك قياداتها انه سيكون سبباً اساسياً في معظم النكسات التي اصابت مصر وربما الأمة العربية كلها بعد ذلك، في انتظار ذلك "التورط" الأحدث الذي أمعن في سحق الأمة: تورط صدام حسين في الكويت عبر محاولة الغزو الفاشلة. طبعاً، لا يمكننا هنا ان نقارن بين ورطة عبدالناصر اليمنية، وورطة صدام حسين الكويتية. اذ ان عبدالناصر حين بعث جيوشه الى اليمن كانت هناك في هذا البلد قوى حقيقية طلبت مساعدته ولم يذهب للغزو او للنهب او للاعتداء على اراضي الآخرين وحياتهم. عبدالناصر بعث جنوده ليساند الانقلاب اليمني وبناء على طلب اليمنيين انفسهم ضمن لعبة صراع دولي وإقليمي كانت في ذلك الحين بلغت ذروتها. وكان يوم 27 تشرين الأول 1962، هو اليوم الذي بدأت فيه القوات المصرية بالوصول الى ميناء الحديدة اليمني، بعد شهر من انقلاب عبدالله السلال العسكري الذي كشف بسرعة عن هويته الناصرية وهواه المصري الجمهوري، في مواجهة الامام البدر الذي خلف اباه في الحكم، لكن اصلاحيته ورغباته في الانفتاح على العالم الذي كان ابوه اغلق اليمن دونه، لم تشفع له في نظر الانقلابيين الذين ارادوا يومها التخلص من اسرة حميد الدين كلها. قبل ذلك كان جمال عبدالناصر يبدي الكثير من التعاطف مع الامام البدر، الذي كان يعرفه جيداً، لذلك يقال انه لم يستسغ كثيراً، الانقلاب على البدر، لكنه سرعان ما وجد نفسه في الدوامة: كان عليه ان يختار بين نظام اصلاحي تطوري يسعى للتقرب اليه البدر وجماعته وبين عسكريين راديكاليين يعلنون الانتماء اليه ويعدونه بأن يكونوا رأس حربة للناصرية في طول الجزيرة العربية وعرضها. ومما لا شك فيه ان الاسابيع التي تلت انقلاب السلال كانت من الاصعب على عبدالناصر. فهو كان في حيرة من امره، ويعرف انه سيتورط بشكل يصعب التراجع عنه. وكانت التقارير التي ترده من اليمن، ومن الدوائر الديبلوماسية تزيد حيرته حيرة. ولكن، في لحظة من اللحظات، حدث ما اخرجه من "الحيرة" ليدخله في "الورطة": تمكن الامام البدر من الهرب والوصول الى شمالي البلاد حيث جمع القبائل المؤيدة لأسرته، والمسلحة بشكل جيد، والمدعومة من الدول المجاورة التي لم تكن راغبة في رؤية المد الناصري يصل اليها. وهكذا لم يعد امام عبدالناصر اي اختيار آخر: سيتدخل، وسيساند عبدالله السلال والانقلابيين.. طالما ان الحرب فتحت، وان هزيمة هؤلاء ستعني تراجع نفوذه في هذه المنطقة من العالم! وأرسلت القوات المصرية، على دفعات لتساند السلال الصورة في حرب كان من بين التقارير المرسلة الى عبدالناصر، ما يقول انها ستكون نزهة، اذ كيف يمكن لمقاتلين جبليين ان يتصدوا لجيش منظم كان من أقوى جيوش الشرق الأوسط في ذلك الحين؟ لكن حساب الحقل لم ينطبق على حساب البيدر، واستفاد انصار الامام البدر من وعورة المناطق الجبلية التي يوجدون فيها، وراحوا يشنون حرباً في منتهى القسوة، ويسجلون الانتصارات الصغيرة التي كانت تجبر المصريين على قصفهم بالطائرات ما اعطى للجيش المصري صورة الجيش القاسي المحتل.. وبالتدريج صارت حرب اليمن، عبئاً على المصريين. ولسوف يقال لاحقاً ان جزءاً اساسياً من هزيمة حزيران 1967 كان سببه تورط المصريين في حرب اليمن. مهما يكن فإن هذا التورط انتهى اثر هزيمة حزيران، وأدركت القيادة المصرية حقيقة الفخ الذي جرت اليه، وبدأ الانسحاب المصري بعد مفاوضات ومؤتمرات عديدة دامت سنوات. وظل الرئيس جمال عبدالناصر حتى آخر ايامه يتساءل عما دفعه الى التورط هناك.