أكثر من مرة طرحت الصحافة البريطانية السؤال: إلى أين يتجه الشباب البريطاني؟ موحية بأن اليافعين الانكليز تنقصهم الثقافة والهدف والعزيمة لتحقيق ما يسمى بريطانيا المتطورة الحديثة. وكأي شعار يتشبث بالأوصاف عوضاً عن الأفكار، فإنه سرعان ما يتحول الى نقيض. وإذا كان الشعار لم يتحقق بعد، فإن الفوضى تحل محله. وهي فوضى تتشكل بعنف نراه في العودة الى "هولوغانية" المناسبات. لا شك ان نظرة أوروبا الى الشباب الانكليزي، خصوصاً بعد حوادث مباريات كرة القدم المتكررة ترى أنه في حاجة الى "التربية والنظام"، فالشعور القبلي له مواقعه الشديدة بين فئات الشباب، وقد تثيره حوادث عابرة او مواسم وغيرها. كل عطلة اسبوع تفد مجموعات من الشباب البريطاني على العاصمة، وكأن الهدف ان يسمع ضجيجهم العالم المشغول. المشاركة في عالم لندن تكون عن طريق اغراقه في الغناء والعربدة والاصوات المنكرة. الاعلام التي رسمها الانكليز على وجوههم في المناسبات تشير الى أكثر من شعب واحد. كل فئة تبتكر مناسبات للتعبير عن مشاعرها بالتظاهر، حتى ولو كان الامر يتعلق برقصة جماعية في ديسكو. التعبير يتخذ صوراً ووسائل أقوى من هذا. وفي حالات يتحتم على المرء ان يبتعد اميالا، الى الأمان، تاركاً الساحة لمن هم اكثر خبرة مثل رجال الشرطة. في منطقة لندنية مختلطة الأجناس مثل كامدن، يعبر الشباب عن وجود آخر: بالموسيقى والموضة وبنوع من الحياة البديلة. قد يكون هذا نوعاً من الاختيار السهل بالنسبة الى معاناة الطلبة، او الذين لا يجدون عملاً لتحقيق وجود ما. إلا أنه جزء أساسي من النظرة الحداثية الاعلامية لوجه بريطانيا الجديد: الفن والاعلام يشكلان قسطا كبيراً من اهتمامات الشباب خارج نطاق معركة الانتماء. والموسيقى في النهاية هي ما ينجذب اليه الشبان والشابات مبدئياً الى ان يحصلوا على وظيفة او عمل مستمر. كثيرا ما تبرز من هذا اللقاء المتردد فرق تؤثر في الساحة الموسيقية وتتجاوزها الى الموضة والفن عموماً. مثلما حدث، على سبيل المثال لا الحصر، مع "أويسيس" و"بلور" و"توميتو" و"فيرف"، وتشكل جميعها اسلوباً ثقافياً بديلاً لا يزال يتبلور. حتى حارس المحطة في منطقة كامدن موسيقي، أنه يجمع بين عمل وهواية الى حين تثبيت قدميه على شاطئ بحر الفن المتلاطم. كان مارك وإيميس يعزفان داخل المحطة، وهو أمر ممنوع، فبادر الحارس - الموسيقيّ إلى منعهما بطريقة ملطفة افرجت الكثير من الضغط عن الوجوه، وقادت الى التفاهم بين الثلاثة. فاقترح الحارس ان يرد لهما آلتيهما مقابل تعزيز فرقته بالعزف معه في عرض سيقدمه في حانة في كامدن. وكان عرضه مفاجأة لهما عززت اعتقادهما ان الفرصة ستلقاهما يوماً، وان في ظروف افضل. مارك وإيميس واثقان من موهبتهما، وينتظران الحظ كأنه على وشك الظهور. الا ان العزف مع فرقة الحارس الذي يدعى شيموس لم يكن من الصنف الناجح فهما لا يتعاطيان الموسيقى الشعبية الايرلندية التي تعتمد الكلمة والتكرار والآلات الوترية مثل الكمان . البعض ينسب تهافت ثقافة الانكليز إلى انشغال شبابهم بالبحث عن الذات عبر الموسيقى والمرئيات. المغامرة لا تنتهي عند هذا الحد، فقد تأخذ طريقا عنيفاً، أحياناً انتقاماً من السقوط، واحيانا تفاعلا مع تكهنات النجاح، او رد فعل له. لا يمكن ان يبتعد المرء طويلاً عن تعليل بعض مظاهر عنف مشاهدي مباريات كرة القدم بأنها قادمة من الاحساس بذلك الخوف... من السقوط. والانسحاب قد يكون بالادمان على المخدرات. لكن الرأي الآخر يعطينا شعوراً بأن الضياع قد تحول فناً، وهذه الطريقة لها مروجوها ومنها يستمدون نجوماً يختلفون عمن هو موجود ومستهلك في السوق. الشبابية بضاعة، في معنى انها أقوى مجال لتسويق المواهب وتصنيعها في اساليب ومذاهب وتكهنات. يمكن القول أيضاً إن للوكلاء علاقة بما يعاني منه الشاب البريطاني من "منهجية" القهر. وهذا تفصيل يرجع الى النظام نفسه. فالمجتمع تنظيمي يتجه الى وضع كل شيء في محله. لا نشاز او عدم تسمية. وما يخرج عن الدائرة مجمد الى أن يتم "اكتشافه" من طرف معلن أو وكيل. هناك من يرى ان الشاب الانكليزي يعاني من عدم وجود ثقافة خالصة ينتمي اليها. ثم هناك من يرى أن لا وجود لتلك الثقافة في عصر تكنولوجي مثل عصرنا. التوسع الثقافي جاء في وقت تعيش فيه أمم بلبلة. والشباب الانكليزي لا يختلف عن غيره. والبحث عن انتماء يناقضه الانجراف في عالمية الفن، بما فيها الموسيقى التي تسير في طريق التشابه والعمومية. في احصاء قدمته مجلة "يوروبيان" الاسبوعية أن 88 في المئة من الشباب الانكليزي يرى نفسه انكليزياً لا بريطانياً، ويستدعي هذا الصورة التي تحملها أوروبا عن انكلترا كبلد مستقل. الا ان الحديث عن ثقافة انكليزية يستدعي أشتاتا أخرى مثل لعبة كريكيت، والطبيعة ، والحديث عن الجو... يضاف الى ذلك شرب الجعة والغناء الجماعي الذي لا ينتهي، خصوصاً في ملاعب كرة القدم، والتي تطورت الى "الهولوغانية" للبحث عن صوت. "المنهجية" مسؤولة أيضاً عن الضغط المعنوي الذي يشعر به الشباب. فما عليه سوى الالتزام بهيكل معين إذا أراد الحصول على صوت. ورأينا منذ بداية الثمانينات كيف ان هذا ادى الى ثقافة الهامش التي ترعرعت من دون ان ينتبه لها النظام، فكانت فرصة لحزب العمال في المعارضة آنذاك ان يحتويها، ويقدم جانبا منها عند تولي الحكم كوجه جديد لبريطانيا. لكن هذا الوجه لا يحب ان يرى نفسه في مرآة المنهجية، خوفاً من أن يصاب بنوع من الاشمئزاز مما يرى. وهو ما يحدث حالياً بعد ابتعاد فرق فنية عن الرؤية الرسمية للثقافة. التطور يحدث عادة بالخروج عن المعتاد، وعلى الرغم من ضياع الشباب الانكليزي بين "الهولوغانية" والبحث عن هوية من خلال الفن، فإنه لن يجد صوتاً إلا في النظام، والمغامرة خارج حدود الامكانات التي تعطيها الدوافع الشخصية كما وجدنا عند مارك وايميس وشيموس... واذا كان البعض يشبه هذه الفترة بالستينات فان تلك الفترة كانت عصر التخلي عن المسؤولية. أما اليوم فالجميع يدرك ان العالم تنافسي ولا مجال لغض النظر والانعزال. والشباب يشرح نفسه بكل الوسائل حتى من طريق الجمع بين الفن والعنف والغناء.