خيّل إليَّ، كأنهما يودعان أحدهما الآخر. تلبثا، منذ حين، أمام منخفض السكة الحديدية، منتطرين وصول القطار ومنتظرين أن ينتهي لقاؤهما. كنتُ أقف على مبعدة منهما، غير منتظر أحداً وغير واجدٍ من أودعه. كانت المرأة في أواخر الثلاثينات من عمرها وجاوز هو الخمسين. بدا عليهما كأن هذا الفراق هو الأول لهما أو كأنه هو الأخير. تشابكا، كل على طريقته" فأحاطتْ هي وسطه والتفّ ذراعه بحنان حول عنقها. كلنت ملابسهما قديمة رثة مجعدة، وشعرها الطويل الأشقر مضطرباً. كأنها لم تجد الوقت لتسريحه حين قامت من سريرها هذا الفجر، ولم يكن شعره الرمادي المائل للسواد أقل من شعرها اضطراباً، ولا كان معطفه العسكري المستهلك أقل تجعيداً من معطفها الحائل اللون. همستْ بأذنه كلمة أو كلمتين، فالتفت اليها وعلى فمه ابتسامة. قرَّب وجهه الملتحي من وجهها متسائلاً. قبّلته قبلة خفيفة على شفتيه، فردَّها لها وبقي يسائلها بعينيه القلقتين عما همستْ به اليه. كانا، لا شك، يودعان بعضهما. لم أعرف من الذي سيسافر منهما" وكنتُ حائراً، منغمساً معهما في جو المحبة الحزين الذي يغلفهما. قالت لي مساء أمس انها لا تحب أن تراني مرة أخرى، ثم قامتْ من كرسيها بحدة وتركتْ المقهى رامية في وجهي الصحيفة التي نشرتُ فيها آخر أشعاري. لم أسأل منها عن أسباب هجرانها لي، فقد بدتْ لي مخلصة في كراهيتها" ولا سبيل لنا أمام الإخلاص إلا القبول به. كانا ينظران الى الجهة اليسرى التي يتوقع أن يأتي منها قطار الساعة السادسة هذا، القطار الصباحي المبكر الذي تعرفتُ عليه في أيام سعادتي الماضية معها، حين كنا لا نفكر بوداع أحدنا للآخر" بل نستقل بمرح لا نهائي إحدى عرباته ونمضي معه نحو مكان بعيد عن الدنيا، حيث نحيا، في أحضان بعضنا، وقتاً خارج حدود الزمان. عادت توشوش في أذنه فانحنى قليلاً عليها وتجهم وجهه هذه المرة، ثم هزَّ رأسه مرتين وبدا لي كأن عينيه اغرورقتا. أشرتُ اليها بذراعي قبل أن تغادر المقهى، فتوقفت متذمرة قرب الباب الزجاجي الكبير. لم أتذكرها قط بمثل هذا الجمال الوحشي من قبل. اقتربتُ منها وقلت لها بغاية الهدوء... انها توجهني نحو مصير أسود بتصرفها هذا، فلا أحد لي في الحياة غيرها" فرفعتْ خصلات من شعرها الجزل، بحركة مغرية، عن وجهها ثم استدارت تغادر المقهى من دون كلام. كان جوابها ذاك صارماً وقاطعاً، لا رجعة فيه. سمعنا ضجة القطار ترتفع خافتة، فالتفت الجميع ناحية اليسار والتفتُ معهم. كانت نفثات بخاره بيضاء متقطعة وصغيرة ضعيفاً لا يُسمع. لم يكن معهما متاع" لا حزمة ولا حقيبة سفر، مثلي تماماً" فتملكني فضول غير مألوف... فضول الدقائق الأخيرة. اقتربتُ ببطء منهما" اقتربتُ ببطء شديد. لم أُرد أن أسمع ما يقولانه لبعضهما. كانت هي تحب ذلك. ما أن نستقر في محل عام حتى تبدأ تتلفت من هنا الى هنا وتتفحص الجالسين قربنا، مركزة سمعها على ما يصلنا من أحاديثهم" خصوصاً تلك الأحاديث التي يتبادلونها بهمس مسموع. ويا لطربها وهي تفهم ما يريدون ألا تفهمه! ونتضاحك بجنون. كان يتوسل اليها، بصوت أجش متقطع، ألا تحزن أو تقلق، فكل شيء سينتهي بسرعة" وكانت تسترضيه وتجيب بكلمات غامضة لم أميزها. تطلعت باتجاه القطار المقبل إلينا، ثم استدارت اليه. كان وجهها شمعياً، دميماً، لا حياة فيه. رأيت شفتيها ترتجفان قليلاً. ويا لرعبها! لم أجدها في شقتها حين ذهبتُ أبحث عنها هناك. تركتُ لها قصاصة ورق تحت بابها، كتبتُ فيها كلماتي الأخيرة التي لن تفهم منها شيئاً. كنتُ شاعراً في غير الوقت المناسب. ثم قضيتُ ليلي أتمشى على غير هدى، ملقياً نظرة على الأماكن والشوارع التي أحبها في هذه المدينة. وردتْ لذهني، أثناء المسيرة تلك، أبيات شعر جميلة حقاً، تركتها تهرب مع الريح الباردة. اهتزتْ الأرض بخفة حين صار القطار على مبعدة من المحطة. رأيتهما يزدادان تلاصقاً فيما بينهما، كأنهما يخشيان أن يفرقهما أحد" وانتبهتُ اليه يشدّ ذراعه بقوة حول رقبتها. كنت حزيناً لمنظرهما هذا، وخطر لي، لحظة، أن أبادلهما كلمة أو اثنتين" عن الرجاء المفقود والحب والأحلام والسعادة والحياة الأخرى... ربما. إلا أني حدستُ بأنهما لن يفهماني، وبأني، من جهتي، قد لا أستطيع أن أجعلهما يفهمان مني شيئاً ذا قيمة جوهرية. نظرتُ الى ساعتي. كانت هي السادسة إلا دقيقة واحدة" وكان القطار يزمجر ويهز الأرض بعنف، نافخاً دخانه الأبيض نحو السماء وهو يدخل المحطة في موعده المحدد المضبوط. * روائي عراقي.