إن أوراق الاستراتيجية الاميريكية - الاسرائيلية في الشرق الاوسط معروفة منذ مدة طويلة، ويكفي ان نقرأ بعض التقارير، أو الدراسات لكبار المختصين في شؤون الشرق الاوسط لتتضح لنا هذه الاوراق، وطريقة توزيعها في أيدي اللاعبين، قد تحذف هذه الورقة أو تلك، او يعاد ترتيبها بين أوراق اللعبة حسب تطورات الوضع في المنطقة، لكن أهداف اللعبة تبقى واضحة، ثابتة. أولا: القضاء على أية قوة عربية تبرز في المنطقة بعد أن حيدت مصر باعتبارها أكبر قوة عربية نتيجة ابرام اتفاقيات كامب دافيد، وربط علاقات ديبلوماسية واقتصادية، وبذلك فقدت دورها في تزعم اية قوة عربية مناهضة للسياسة الاسرائيلية. ثانيا: السعي من أجل تعميق الخلافات بين الدول العربية، واشعال فتيل الحروب الحدودية، والعرقية، والطائفية بينها، وداخل كل بلد تنفيذاً لمخطط التفتيت والبلقنة، وبذلك تفتح الطريق امام قيادة اسرائيل للمنطقة سياسياً، عسكرياً واقتصادياً. هذا داخل الدائرة العربية، وتبقى ايران ضمن الدائرة الاسلامية عامل قلق وازعاج نظراً لموقفها المعادي لإسرائيل، ونظراً لثروتها النفطية التي يتحكم فيها نظام يسعى ان يكون له دور إقليمي في المنطقة تدعمه قوة عسكرية حديثة، وتتجه انظار المخططين لهذا الدور الى منطقتين حساستين بالنسبة للسياسة الاميركية، وبالتالي السياسة الاسرائيلية - التركية: المنطقة العربية، ومنطقة الجموريات الاسلامية في آسيا الوسطى، فلا مناص - إذن - من الزج بهذه القوة الصاعدة في مستنقع حرب مع دولة مجاورة تغرق فيه وتخرج منه منهوكة القوى، وهو نفس الفخ الذي سقط فيه النظام العراقي في حرب الخليج الاولى، وهكذا خطط لفتح واجهتين: واجهة على الضفة الشرقية للخليج العربي بين إيران وافغانستان، وواجهة أخرى على حدود غرب آسيا بين سورية وتركيا لتتنفس اسرائيل في الوسط الصعداء، وتصبح الماسك الوحيد بأوراق اللعبة في منطقة الشرق الاوسط. إنها منطقة شاسعة وحساسة تتداخل فيها عوامل مختلفة، وتتنافس عليها قوى إقليمية ودولية متعددة تتفق مصالحها حيناً، وتتباين أحيانا. ومن هنا شعرت اسرائيل بحاجتها الملحة الى كتف يسندها، وينتسب الى المنطقة جغرافيا وحضارياً أثبت منذ نصف قرن وفاءه للغرب، ولربيبته المدللة: إسرائيل، وقلب ظهر المجن لجواره العرب، فوجدت ضالتها في المؤسسة العسكرية الماسكة بزمام الامور في تركيا مباشرة، او من وراء الستار. إنكشفت الأوراق - إذن - وتتمثل المشكلة بالنسبة إلينا - معشر العرب - ان الطرف الآخر الذين تدور اللعبة ضده لا يملك أوراقاً، أو يملكها لاعبون تجمع بينهم الخلافات، وعناصر الفرقة، وبالتالي فهم عاجزون عن الدخول في اللعبة بأوراق ضاغطة، فضلاً عن ان تكون رابحة، ومن المعروف ان الطرف المقابل يفرض في هذه الحال قواعد اللعبة ونتائجها، كما هو الشأن الآن في المفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية. إن ورقة اضرام الحرب بين سورية وتركيا ليست جديدة، الجديد هو طرح الورقة في هذه المرحلة الدقيقة التي يمر بها الوضع في الشرق الاوسط، وهو وضع يتسم بتردي الاوضاع العربية، والعجز عن الاتفاق من جديد على الحدود الدنيا للتضامن العربي، بعد ان نسفت قواعده السياسة الرعناء التي قادت الى حرب الخليج الثانية، وما افرزته من نتائج مأسوية في الوطن العربي. هل من الصدفة ان تهدد تركيا بشن حرب كاملة ضد سورية بعد ابرام اتفاق استراتيجي عسكري بين اسرائيل وتركيا، وبعد اجراء مناورات عسكرية متعددة على قاب قوسين أو أدنى من العاصمة السورية، ولم يقتصر التهديد على دخول المناطق الحدودية بحجة اقتفاء اثر مقاتلي حزب العمال الكردستاني، بل الهدف ضرب القواعد العسكرية والاستراتيجية في التراب السوري والبقاع، وكذلك تحطيم البنية الاساسية لتبقى سورية سنوات طويلة مشلولة القوى عسكرياً واقتصادياً، وتقبل الشروط الاسرائيلية في الجولان، وفي جنوبلبنان. إن التهديد التركي لسورية جاء - إذن - نتيجة مباشرة للتحالف الامني والعسكري الإسرائيلي - التركي، ومن هنا جاء تساؤل كثير من العارفين بطبيعة العلاقات العربية - التركية: لماذا دقت أنقرة طبول الحرب الآن بحجة دعم سورية للأكراد الانفصاليين، وهي قضية قديمة تعود الى بداية الثمانينات؟ هل أصبح تمرد حزب العمال الكردستاني يمثل فعلاً خطراً على النظام التركي، وهو أمر لا يصدّقه أحد! وإذا فرضنا جدلاً ان هذه الحركة اصبحت عامل قلق وإزعاج لنظام انقرة، فهل يبرر ذلك شن حرب على دولة مجاورة ذات سيادة؟ قد تتوتر العلاقات، وقد تصل الى حد المناوشات الحدودية، كما حصل في كثير من الحالات الشبيهة، اما ان تشن دولة عضو في الحلف الاطلسي، ومعروفة بآلياتها العسكرية الحديثة التي جهزها بها الغرب في مرحلة الحرب الباردة، فذلك أمر يتجاوز منح زعيم كردي انفصالي حق اللجوء السياسي، أو حتى السماح له بالنشاط انطلاقاً من الاراضي السورية، انها تعلة واستغلال توقيت معين لتصفية حسابات قديمة، ووضع التحالف الاسرائيلي - التركي الجديد موضع التنفيذ. إنه امر غريب وساذج ان نقرأ هذه الايام لباحث تركي مختص في قضايا الشرق الاوسط يقول: "ومن الصواب ان نعتقد انه لو لم تكن سورية قد تجاوبت مع حزب العمال الكردستاني لكانت انقرة قد شعرت أنها أقل ميلاً للدخول في علاقة حميمة مع تل ابيب"! فمتى كانت دول كبرى من حجم تركيا تدخل في حلف إستراتيجي عسكري مع نظام عرف بايديولوجيته العنصرية التوسعية لأن بلدا مجاوراً فتح حدوده لجماعات من المعارضين لنظامه؟ إنه منطق جديد في العلاقات الدولية بدأته الولاياتالمتحدة الامىركية بشن غارات جوية مدمرة على تراب دول ذات سيادة بحجة مقاومة "الإرهاب"، وهو ما تفعله اسرائيل يومياً في جنوبلبنان بنفس الحجة، وتفعله تركيا منذ أعوام ضد دولة مجاورة ذات سيادة هي العراق، ليصل الأمر مع سورية ليس لشن غارة، او تجاوز الحدود المشتركة، بل لشن حرب كاملة. لو طبق هذا المنطق الجديد في العلاقات الدولية، أعني منطق تتبع المعارضين الملتجئين الى اراضي الدول المجاورة لاندلعت كثير من الحروب بين الدول العربية، وكذلك في القارة الافريقية، واميركا اللاتينية، وقد يؤدي الامر الى حرب ذرية بين بلدين، فما سيكون رد الفعل لو قامت باكستان اليوم بغارة جوية على احدى المدن الهندية الكبرى بحجة دعم الهند لعناصر "إرهابية" باكستانية معارضة؟ والتساؤل الذي يطرح نفسه في هذا الصدد هو: ما هو موقف النظام التركي من دعم واشنطن الرسمي والعلني لحركات الاكراد في شمال العراق، وهي حركات إنفصالية قد تنجح يوماً ما في تأسيس دولة كردية تكون نواة اولى لدولة كردية أكبر؟ إن التحالف التكتيكي الظرفي، واستعمال الخلافات الايديولوجية بين فصائل حركات المعارضة الكردية، وهي جميعها ذات اهداف إستقلالية، لا يبرر دعم بعضها من جهة، وشن حرب كاملة على دولة ذات سيادة بحجة دعمها لحركة إنفصالية من جهة اخرى. كاتب تونسي