قبل سنوات كتب عالم الاجتماع الاسرائيلي يهودا ألكانا مقالاً جديراً بالتقدير عن اهمية النسيان. كان بالطبع يتوجه الى قراء اسرائيليين في وقت رأى فيه ان اسرائيل، مجتمعاً وشعباً، محكومة أكثر مما يجب بالماضي. ورأى ان هذا القدر من التمسك والهوس بالماضي يشكل عائقاً امام الحاضر، فهو يؤدي الى عقدة الاضطهاد وفقدان القدرة على رؤية الواقع كما هو، بل اعتباره دوماً تكراراً للماضي وصدماته. من هنا أكد ألكانا فائدة النسيان، بل ضرورته، وعلى انه ميزة يجب تنميتها وتقويتها كشكل من أشكال العيش في الحاضر والتعامل معه كما هو بذاته. الواضح ان مقولة العالم الاسرائيلي كانت تشير الى مواقف الاسرائيليين من العرب عموماً والفلسطينيين خصوصاً، ومدى ما في تلك المواقف من الخطأ، بل الحمق المضر بالذات، عندما لا ترى في العرب والفلسطينيين سوى أمثلة جديدة على اللاسامية التي تكرر نفسها عبر التاريخ. مقولة الكانا تتناول وضعاً خاصاً، لكن لها معنىً شمولياً. اذ لا يصح لمجتمع ان يبقى في قبضة الماضي، مهما كان كارثياً، أو ان يسمح لمراحل من تاريخه الجماعي بتحديد مواقفه من الحاضر. من الاعتبارات الداعمة لموقف ألكانا، ولو أنه لم يذكر ذلك بصراحة، ان قوة اسرائيل على الاصعدة العسكرية والاقتصادية والسياسية نسبة الى جيرانها، خصوصاً الفلسطينيين، مترسخة ومضمونة. وهكذا فليس لاسرائيل ان تواصل الادعاء انها على الانكشاف والضعف نفسيهما كما كان اليهود اثناء المحرقة، عندما تم سوق غالبيتهم من دون مقاومة الى معسكرات الموت. وهناك اليوم خطر استعمال تلك الكارثة التاريخية، بذكراها التي لا تزال بالغة الشدة والايلام، للتغطية او تبرير ما يفعله الضحايا السابقون حاليا، أي اضطهاد الغير وجعله ضحية. المفارقة الكبيرة هي ان موقف الفلسطينيين من الماضي، كما تعبر عنه القيادة الحالية، هو المبالغة في الميل الى النسيان، والتساهل في حماية الماضي المشترك. لكننا عكس اليهود لا نزال شعباً مسلوباً محروماً من وطن. فقد استولت اسرائيل على أرضنا ودمرت قرانا واحتلت عسكرياً وحكمت بوحشية الاراضي التي غزتها في 1967، ولم تعترف بما قامت به، ناهيك عن تقديم التعويض. وتواصل اسرائيل تحت حكومتها الحالية مصادرة المزيد من الأراضي وتدمير المزيد من المساكن، ليس فقط خارج الخط الأخضر بل داخله ايضاً. وقبل أيام صادرت الحكومة مناطق واسعة من بلدة ام الفحم الفلسطينية داخل اسرائيل لكي يستعملها الجيش للتدريب الناري. هكذا يستمر النهب ويتسارع، فيما تواصل تلك المهزلة المسماة عملية السلام زحفها السلحفاتي، وهو في غالبه، بالنسبة الى الفلسطينيين، الزحف الى الخلف! أظهرت السلطة الفلسطينية خلال السنوات الخمس من عملية السلام استهتاراً مشيناً وتبلداً مذهلاً ورياء لا نهاية له ازاء مسؤوليتها الاخلاقية والسياسية تجاه ماضي شعبها. وعندما القى ياسر عرفات خطابه السقيم السيء الصيت في الاحتفال في البيت الأبيض عام 1993 لم يقل شيئاً عن الماضي، بل خصص معظم الخطاب لشكر اسرائيل والولايات المتحدة، جلاّدي شعب فلسطين، على كرمهما. كان ذلك عرضاً بالغ التفاهة، مشبعاً بالخنوع والرياء. من جهته القى اسحق رابين خطاباً كأنه الخطاب الفلسطيني المطلوب، مسهباً الى حد الاملال في الكلام عن الدماء والتضحيات التي قدمتها اسرائيل في مسيرتها الصعبة نحو السلام، من دون أن يذكر شيئاً بالطبع عن القرى ال400 التي دمرتها اسرائيل في 1948، او مشاركته مع الجيش الاسرائيلي في الطرد المتعمد لثلثي السكان الأصليين وتشرديهم عن مساكنهم ومزارعهم لكي يستولي عليها مهاجرون من بولندا والولايات المتحدة. لكن اذا كان لنا ان نندد بأكاذيب رابين، فما عسانا نقول بحق قائد وبطانته لا يجدون في شعبهم سوى بيادق او كلمات على صفحة، من دون تاريخ او خسائر او تضحيات تستحق الذكر؟ انه اسلوب مثير لأشد الغضب، اذا اخذنا في الاعتبار ان عذاب الفلسطينيين يستمر، وان من المقرر له ان يستمر، وهو ما كان على عرفات ان يدركه لو سمح له غروره بذلك - يقول نائبه ابو مازن انه احتاج الى سنة تقريباً لإقناع عرفات بأن اتفاق اوسلو لن يقدم له الدولة الفلسطينية، بدل ان يستمر في التزام الاتفاق بعدما وقّع عليه بتلك الحماسة. وهو منذ ذلك الحين يواصل موقفه المتذبذب، موافقاً على شروط ومقدماً تنازلات عن حقوق في شكل حوّل ما يسمى الأراضي الفلسطينية الى سجن كبير يديره رجاله نيابة عن الاسرائيليين. وفضحت الاحداث الأخيرة في الخليل فشل "الحل" الذي ارتضاه للمدينة، عندما سمح لحفنة ضئيلة من الاسرائيليين المتطرفين بالسيطرة على قلبها الديني والتجاري، وابقى مئة ألف فلسطيني من سكانها رهينة بيدهم وتحت رحمتهم. ان السلطة الفلسطينية ورئيسها لم ينسيا الماضي فحسب، بل انهيا يغفلان الحاضر. ذلك ان اهتمامهم الوحيد، كما ارى، هو البقاء، تماماً مثل نظرائهم في الدول العربية المجاورة. الانتهاك الأخير لتاريخ الفلسطينيين وذاكرتهم جاء مترافقاً مع تعيين أرييل شارون وزيراً لخارجية اسرائيل. إذ نقلت تقارير نشرتها الصحف الأميركية في العاشر من الشهر الجاري عن قيادي فلسطيني - وهو وزير في السلطة ومفاوض وناطق باسم عرفات منذ زمن طويل - استعداده، ازاء تعيين شارون، ل"نسيان التاريخ". ان العالم كله يعرف ان هذا العسكري الاسرائيلي مسؤول عن مجزرة صبرا وشاتيلا اعتبرته المحكمة الاسرائيلية وقتها مسؤولا "غير مباشر" عنها، لكن يبدو ان قادتنا يرون ان الزمن تقادم على المجزرة ولم تعد تشكل عائقاً امام التعامل معه. لكن لشارون في اي حال سجلاً طويلاً من الجرائم ضد المدنيين الفلسطينيين. إذ كان مسؤولاً مباشراً عن "تهدئة" غزة في 1971، حيث تعرض عدد كبير من الأبرياء الى السجن ونسف المساكن، وتحول القطاع بأسره الى سجن اسرائيلي. قبل ذلك بزمن ترأس شارون ما كان يسمى "القوة 111"، الفخورة بتقاليدها في مهاجمة المدنيين العرب، وكانت مجزرة قبية من بين ما ارتكبته. واعتاد ان يتبجح بأن في امكان اسرائيل غزو وتدمير اي بلد عربي متى ما شاءت. وتكونت حياته العملية من سلسلة من الخطوات التي تؤكد صلافة اسرائيل، وأدت دوماً الى المزيد من الضحايا المدنيين والعرب. ويبدو ان تعيينه وزيراً للخارجية شكل صدمة للكثيرين من الاسرائيليين الذين يعتبرون شارون عاراً عليهم، اضافة الى كونه صاحب "خطة السلام" في 1981 التي كانت نقاطها الرئيسية ضم البانتوستانات. كما ان التعيين كان طريقة نتانياهو في ايصال الفلسطينيين الى حضيض جديد من المهانة بإجبارهم على التعامل مع شخص لا تزال يده تقطر من دمائهم، ومعروف في كل مكان بعمق نياته العدوانية تجاههم، ولا يزال يعتبر عرفات "مجرم حرب". وكان اكد اخيراً انه لن يصافح عرفات. جواب عرفات كان تناسي التصريح والاعلان عن استعداده لمصافحة شارون. ثم جاء التعليق من المسؤول الفلسطيني الذي ذكرت اعلاه، الذي عبر فيه عن الاستعداد ل"نسيان التاريخ" والتعامل بصدق وصفاء نية مع شارون. انسوا التاريخ! انه شعار ينضح بالقذارة، ينبع من قعر زريبة الفساد والخداع الذي تتمرغ فيه الآن القيادة الفلسطينية بأسرها، من القمة الى القاعدة. لماذا هذا التهالك على نسيان جزار صبرا وشاتيلا؟ جزار غزة وسيناء؟ لماذا ننسى انه زرع كرشه المندلق في وسط القدس العربية، حيث "بيته" المحاط بالحرس المسلح يرفرف عليه، بكل تحد واحتقار، علم اسرائيل. لماذا التغاضي عن انه الحاقد الاكبر على الفلسطينيين والمحتقر الأشد لهم في اسرائيل، وعن انه لا يضمر لنا كل الشر فحسب بل انه الحق بنا أبشع الأذى خلال ثلاثة عقود؟ لكن، لا بأس: "انسوا التاريخ"، كما يقول "معالي" الوزير الفلسطيني. أدرك تماماً ان ليس بيدي سوى كتابة أسطر الاحتجاج والاستقذار هذه، أن اُبقي قيد التسجيل ما يهدده النسيان، ان احافظ على ما يجب ان لا يزال من الذاكرة الجماعية. لكن ما يصيب الضمير بطعنة في العمق هو اننا ننجرّ الى اقامة علاقة "ودية"، وليس فقط رسمية متحفظة، مع مجرم الحرب هذا. ولو كان هذا المثال الوحيد على افتقار العرب الى احترام الذات لكان فيه ما يكفي من السوء. لكنه ليس كذلك. اذ اتذكر انني خلال الشتاء الماضي عندما كنت في فلسطين اسجل فيلماً لاذاعة "بي بي سي" لم يعرض حتى الآن في اي بلد عربي اُرسل شارون الى الأردن للقاء قادته. وعبر لي مهندس الصوت في فريق الانتاج، وهو اسرائيلي ليبرالي، عن الدهشة مما يبدو من احترام العرب لهذه الشخصية الشنيعة. وقال ان كثيرين من الاسرائيليين يعتبرونه مجرم حرب، وتساءل عن السبب في اعجاب العرب به. اعترف بأنني عجزت عن الجواب، ولا ازال على عجزي. لكنه موضوع علينا ان نواصل طرحه، لأن من واجبنا تذكير قادتنا الميالين الى النسيان بأن جرائم شارون بحق الانسانية ستبقى حية في الذاكرة، على رغم روح التسامح التي تبديها السلطة الفلسطينية. الا ان الخطر هو ان ما يسمون انفسهم حماة الثورة الفلسطنيية، الصفة التي لا تزال "فتح" تطلقها على نفسها، سينسون أنفسهم بعدما نسوا شعبهم وحقه في العودة الى وطنه والعيش فيه. هل من المستحيل وقتها ان نتصورهم، ربما، يعتذرون لشارون عن وجود الفلسطينيين، ويلتمسونه الاستمرار في التسامح مع ذلك الوجود ويستجدون الابقاء على حياتنا ما أمكن؟ ما نسمعه الآن هو المغالطة التي تصور قبولهم ب9 في المئة من الأرض اضافة الى 3 في المئة ل"المحمية الطبيعية" على انها مكسب. لكنهم لا يوضحون الأرض التي ستنتقل بموجب الخطوة من "المنطقة ج" الاسرائيلية الى "المنطقة أ" الفلسطينية لن تزيد على واحد او اثنين في المئة فقط من ال9 في المئة الأصلية، اضافة الى نقل بعض الاراضي من المنطقة الاسرائيلية الى "المنطقة ب" الخاضعة للسيطرة المشتركة. في النهاية، التحرك على اساس النسيان اسلوب كارثي، فائدته الوحيدة في التالي لا تتجاوز بقاء السلطة الفلسطينية تحت الرعاية الاسرائيلية والأميركية. * استاذ الانكليزية والادب المقارن في جامعة كولومبيا.