الفنان عبد الجابر اليحيا حمل فرشاته وألوانه وطاف بها في بلاد كثيرة. جمعه بين العراق والسعودية، بلدي ولادته ومنشئه، وبين البلدان الأوروبية حيث تنقّل وأقام، مكّنه من ان يصوغ من الاختلاف معادلة لونية وتشكيلية. هذا الحوار أجري معه في بودابست، المدينة التي أحبّ: لنبدأ من البداية، كيف خُلق الفنان التشكيلي في بيئة الزبير؟ - بسؤالك هذا تعيدني سنوات طويلة الى الماضي. تحدثت عن البدايات مرات كثيرة، ومع ذلك وفي كل مرة أجد عند نبش الذكريات تفاصيل وألواناً جديدة. مثلاً، بنيت الجدران في الزبير من الطين، والطين ليس اللبن، اذ يعمد البناؤون الى حفر حفرة يملأونها بالماء ويدوفون الطين بأرجلهم لحين تكون طيناً لزجاً. بعدئذ يقوم البناؤون ببناء الجدار على شكل طبقات، ارتفاع الطبقة منها قدم وسمكها قدمان، ويتركونها ليوم تالٍ حتى تجف وتتماسك. ويبنون فوق الأولى طبقة ثانية وهكذا، لحينما يصل ارتفاع الحائط الى 12 - 15 قدماً. وحائط الطين فجّ، بدائي، غير مهندم، تصنعه اليد دون ادوات. وهو قطعة فنية فطرية مليئة بالألوان والتفاصيل، فالجدار يتلون بألوان عجيبة وغريبة، تتغير تبعاً للفصل والوقت. في الشتاء يتشرب بالماء بعد المطر، فيأخذ لوناً خاصاً، وفي الصيف تحرقه الشمس وتشويه فيتخذ لوناً آخر. اما الظلال، فهي عالم غامض من عوالم الجدران: عندما تسقط أشعة الشمس على الجدار، تبرز تفاصيل كفي البناء الاسطة الذي بناه، ولكل بناء تكتيكه الخاص فلا يشبه الجدار الذي يصنعه جدار بناء آخر. انه توقيع الفنان على اللوحة، يميزه كما تتميز ضربات فرشاة رسام عن آخر. كنت طفلاً، عندما أجلس في الظل لتناول الفطور في بيوتنا الكبيرة، تنير الشمس الجدار المقابل فأرى كل هذه الألوان والظلال العجيبة. في الربيع والخريف، وهما أقصر الفصول، ترى الغيوم في سماء الزبير تتناثر كالريش، بعيدة. وما عرفت انواع الغيوم الا لاحقاً: غيوم طبقة الستراتا المرتفعة، والغيوم الركامية، والغيوم الواطئة التي تطبق على الارض فتبعث الكآبة في النفس. في الصحراء لا نحسّ بهذا النوع، بل يحس به القرويون في الريف، حيث الارض رطبة. كل هذه الامور كانت تؤثر فيّ دونما وعي، دون ان افهم الظواهر كما أفهمها الآن. هذه كانت التأثيرات البيئية. في الزبير، كان لابن خالتي ناصر الخرجي الذي رثاه بدر شاكر السياب تأثير كبير على نشأتي الفنية. وناصر بالنسبة لدارسي تاريخ الفن، سيكون دافنتشي العراق. فقد كان مخترعاً ابتكر العديد من الآلات، بينها ماكنة لتنظيف الانهار من الأشنات، وهي اسطوانة تقوم بتقطيع الأشنات وهي في النهر ليقوم المد والجزر لاحقاً بغسل الاشنات المقطوعة الى شط العرب. كما اخترع آلة يدوية لإزالة النوى من التمر بهدف حشوه بالجوز أو اللوز. كان ناصر نحاتاً ورساماً، وقد صنع من الخشب كماناً، اشتراه أحد افراد عائلة الخضيري الغنية في بغداد عام 1946 بمئة وخمسين ديناراً، وهو مبلغ ضخم في ذلك الوقت. ونحت ناصر تماثيل من المرمر نجدها في بيوت عراقية معروفة مثل الجادرجي والخضيري. كان رساماً لا يستعمل سوى الألوان الموجودة في بستانهم، فهو الذي كان يهيء ألوانه بنفسه، امتلك الخرجي مكتبة فنية أثّرت فيّ كثيراً، فمن خلالها تعرفت على الرسامين الروس فنسنت ورينوار ودورر وغيرهم. كان يطلب مني ان أرسم ما يوجد في هذه الكتب، فأرسمها له ويقوم هو بتصحيح ما أرسم. في ذلك الوقت اثناء الحرب العالمية الثانية، لربما في عام 1942 أو1943، كان هناك عدد من الاسرى الايطاليين والألمان في قاعدة الشعيبة العسكرية البريطانية قرب البصرة، وهي قريبة جداً الى الزبير. وكان الاسرى يجلبون الى الزبير اسبوعياً بحراسة الجنود للتمشي. وكان بين الاسرى بعض الفنانين، فتراهم يرسمون المنائر والاسواق ويجدون شخوصاً لرسم البورتريه، لا يحلم الرسامون بالعثور عليها بهذا الشكل المكثف في أي مكان آخر من العالم. كنت أتبعهم حيثما يمشون، الى ان اهداني احدهم لوحة تصور مسجد الزبير بين العوام مرسومة بالألوان المائية. ومنذ ذلك الحين بدأت الرسم بالألوان المائية. المجر أمضيت سبع سنوات في المجر، كيف تنظر الى المجر والى تجربتك الفنية في المجر؟ لاحظنا انتقالاً تدريجياً في الألوان التي استعملتها منذ قدومك. كيف ترى علاقة اللون بالبلد؟ - المجر عندي عزلة ونفي، اعتبره نفياً اختيارياً. أنا زرت ثلاث أرباع العالم، وعندما أتيت الى المجر أذهلتني البلد. أول شيء أعجبني هو الناس، لا اعرف لغتهم، لكنهم رائعون. النظام التربوي الذي كان سائداً عزز الاخلاقية الموجودة لدى الشعب المجري، ونقاها وشذّبها. فوجئت بهذا. ثانياً، أي رسام، يحب التناقض الذي من دونه ينتصر التسطيح. وبطبيعة الحال ينطبق هذا القول على كل جوانب الحياة، فمن دون التناقض لا يوجد التطور. والشمس في المجر رائعة، ومثل هذه الشمس لا تجدها في الكثير من الدول الاوروبية. ففي الليل قد تتلبد السماء وتمطر، لكنك تفيق في الصباح وقد أشرقت الشمس وزهت الاشجار بخضرتها. لو كنت لاجئاً سياسياً أو طالباً للعمل، قد تكون الصورة التي أراها مختلفة، لكني جئت لأرى، جئت لأرسم. أمضيت سنوات طويلة في الخدمة والعمل وكنت قد قررت ان أتفرغ للرسم عندما يحين وقت التقاعد. لم تعجبني باريس التي أعجبت الكثيرين. أما لندن فلا أفضلها لبلادة جوها. وكذلك لم أفضل اسبانيا وألمانيا وغيرها من الدول الاوروبية. وكانت الحال مشابهة مع الدول العربية وتركيا وباكستان والهند. أعجبتني كل هذه الدول، لكنها لم تكن ملائمة لنشاطي التشكيلي. أنا أميل الى المدرسة الانطباعية. لان المادة الاولى هي اللون ثم الخط. تعاملك مع اللون يبدأ مباشرة بالتفاعل على شبكة العين. وسؤالك يذكرني بعلي بن الجهم عندما جاء الى بغداد من البادية، فقال الخليفة دعوه يتجول في أزقة بغداد ليوم أو يومين، فتطبعت عينه بالحياة الحضرية. بعد هذا التحول في البيئة من البادية الى بيئة بغداد العباسية، أنتج ابن الجهم للأدب العربي درته الخالدة "عيون المها بين الرصافة والجسر". فالبيئة اذن تؤثر مباشرة على الفنان، وأزيد على ذلك أهمية الصدق مع النفس ومع المجتمع. أنا في لوحاتي السابقة استعملت الالوان الصحراوية، لكن مواضيعي لم تكن صحراوية ولم تكن خاصة. تطرقت الى مواضيع انسانية عميقة وبعيدة، وهذا هو المهم. وعندما أعمل في السعودية وأود ان أعرض أعمالي في السعودية، يجب ان لا أنفصل عن البيئة السعودية، وعلي ان أستعمل ألوان هذه البيئة. والأمر مشابه للغة، فكيف يفهمني الناس في السعودية لو تحدثت باللهجة المغربية مثلاً؟ يجب ان أتحدث بلهجة البلد. والعمل الفني هو انعكاس للواقع، لكن بصورة واعية، وهذا فارق مهم. إدراك اللون يجب ان يتم بصورة واعية. الأساليب والمدارس الفنية من يدقق في لوحاتك، يجد فيها مزيجاً من مدرستين فنيتين على الأقل، إن لم نقل ثلاث مدارس أو أكثر. هل هذا هو أسلوبك في التعبير ومخاطبة المشاهد؟ - هذا أجمل سؤال طرح علي في لقاءاتي مع النقاد والصحافيين. المدارس الأكاديمية تلزم التلميذ بالعمل مع استاذ أو استاذين طيلة سنوات الدراسة الأكاديمية الاربع أو الخمس. فالتلميذ منذ عمر السادسة عشرة مثلاً يقتفي أثر استاذه لحين تخرجه وهو في العشرين من عمره، حيث تتكون شخصيته الفنية وتنضج شخصيته الفكرية. والاساتذة يطلبون من التلاميذ رسم ما يطلب اليهم في الاكاديمية، ورسم ما يشتهون بعد تخرجهم منها. هنا تبدأ المدرسة التي يتبناها الفنان بالتبلور داخله كما تحتم الظروف والحياة. انا تحتمت فيّ الظروف والحياة حتى قبل ان أدخل المدرسة، لذلك انعتقت من اية اسلوبية أكاديمية، ووجدت نفسي فيما بعد حراً، أرسم ما أشاء. أحطم اللون والتشريح احياناً وبشكل مدروس. في اللوحات الاخيرة التي رسمتها اعتمدت التشريح، ثم "شوهت" التشريح "تشويهاً" فنياً، حتى تجد التشريح وما وراء التشريح، وهو التأثير والتأثيرية، والانطباعية. لذلك ستجد مدرستين، الانطباعية والتأثيرية وخلفهما تجدني أنا في فهمي للعصر الحالي. الاتقان لن يعطيك أي جديد بوجود أجهزة الدقة مثل الكومبيوتر، التي يمكن ان تعطيك المنظور من كل الجوانب وبشكل متقن. اذن عليك كانسان ان تعطي ما لا يعطيه الكومبيوتر: الشعور. اليوم يمكن رسم لوحات رائعة بمساعدة الكومبيوتر، لكن الماكنة تبقى صامتة دون توجيهها من قبل الانسان. المشاعر والأحاسيس هي الاساس، وهذه لا تمتلكها الالة. والانسان هو الذي صنع الآلة، فكيف يكون عبداً لها؟. واذا لم يقترن الرسم بالفلسفة، يبقى المرء رساماً، ولا يرتقي الى مرتبة الفنان. يجب ان تتمازج خبرة التأريخ الانساني بالخبرة الفنية، ثراء البشرية بالفن. س - كيف تعكس المرأة في لوحاتك؟ ج - هذا أحد المواضيع المهمة التي بدأت بطرحها منذ اصبحت المرأة، للأسف، مواطناً من درجة ثانية. كنا ندرك الامر بصورة نظرية، لكن الامر اليوم اصبح ملموساً بشكل كبير. فمنذ عام 1984-1985، بدأت بتناول المرأة كأم، كأخت، كبنت، كحبيبة. المرأة هي قوام المجتمع، وللأسف المرأة في كل البلدان مهما بلغت في تطورها الاقتصادي والحضاري والثقافي، هي مواطن من الدرجة الثانية. وحتى في المجر أو في اوروبا، فهي وان تحررت اقتصادياً، أو يقال انها تحررت اقتصادياً، فهي تحولت الى سلعة متممة الى بقاء الرجل. فالمرأة لم تتحول الى قيمة إنتاجية مساوية لقيمة الرجل الانتاجية، بل اصبحت قيمة انتاجية بقدر ما تمتلك من مفاتن وفي هذا فارق كبير. التصاقك بالعراق وبذكريات طفولتك وشبابك هناك مفهوم، كيف تستطيع العيش بعيداً عن العراق؟ - يبدو اني حكمت على نفسي بعدم الاستقرار. فاذا لم ينفني نظام ولم ينفيني احد، سأنفي نفسي، لن أستقر. أمضيت سبع سنين في المجر وكانت كافية. كنت قد خططت للاستقرار في العراق، واقتنيت داراً وأثثتها بما تملك اليد، ونقلت لوحاتي اليه، لكن حدث ما حدث بعد المغامرة التي جلبت على العراق والمنطقة الكوارث. في بغداد حركة ثقافية وفنية وأدبية، ولنا فيها اصدقاء، وكان العالم ينظر الى بغداد كمركز حضاري. كنت أود ان أعيش في بغداد، وكان في إمكاني ان أنطلق منها في إجازة سنوية الى الخارج، مع لوحاتي وفرشي. ولماذا أحب العراق؟ وما هي علاقتي بالعراق؟ أي عربي لا يحب العراق هو ليس بعربي. وبيروت؟ - بيروت رائعة. بيروت عرفت إكسير الحياة، ووجدت عشية جلجامش. بيروت عنقاء. رأينا المآسي في اجتياح بيروت عام 1982، وقبله وبعده الحرب الاهلية. ما كان حزننا أسود ولا أزرق، كان حزننا بلا لون لشدته. لكني زرت بيروت عام 1996. فرأيت الانسان والمدينة ينبعثان من الرماد. خلال زيارتي الاخيرة لبيروت التي دامت لثلاثة ايام، كنت أزور 11 معرضاً في اليوم الواحد كمعدل. أعجبني معرض سرسق، وقد أهدى هذا الثري اللبناني بيته الى البلدية ليتحوّل الى معرض تشكيلي دائم، وتقام فيه معارض فردية وجماعية وقتية. وهناك معرض تشكيلي آخر أقيم في بناية هدمتها الحرب نظفت من الانقاض لكنها لم ترمم، وفي ذلك رسالة بالغة، واشارة الى انتصار الفن على الحرب. في بيروت، قد تدخل زقاقاً صغيراً مهملاً لتجد فيه معرضاً تشكيلياً. وخلال زياراتي القصيرة هناك تعرفت على الكثير من الفنانين والنقاد تحوّلوا فيما بعد الى اصدقاء حميمين. كيف ترى الفن التشكيلي في المملكة العربية السعودية؟ - هناك عرض مستمر للفنانين التشكيليين في العديد من الجاليريات، كما تدعم رعاية الشباب اقامة المعارض الجماعية، وتسهم الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون في اقامة المعارض الشخصية والجماعية. وأجمل ما يميز الفن التشكيلي في السعودية هو ان طرح الفنانات التشكيليات اكثر عمقاً من طرح الرجال، وسبب ذلك واقع المرأة الخاص. وليس من الغريب ان تكون المرأة في السعودية قد وعت دورها ونشطت بصورة أوسع من اخواتها في باقي الدول العربية، واحد العوامل المهمة الكامنة وراء ذلك انتشار التعليم، ويكفي ان نذكر ان عدد البعثات الدراسية الى الخارج يصل الى عشرات الآلاف. اذكر انني زرت احد المعارض النسوية في بداية الثمانينات، ففوجئت بلوحات سريالية ورمزية لم أشهد مثيلها بين لوحات رسمها الرجال. والفن ناضج ويتناول مواضيع مهمة: مثلا أقيم في مدريد معرض لاصدقاء الفن في الخليج كتب عنه الناقد المصري كمال حمدي، وكانت لدي فيه لوحة عنوانها "الجريمة الاولى والجريمة الاخيرة" تقارن بين جريمة قتل هابيل وجريمة التفجير النووي، اصبحت هذه اللوحة شعار المعرض. كذلك كتب عن لوحة "البصرة تحترق"، وعن لوحة "النبأ" التي صورت عائلة كويتية ملتفة حول راديو ترانزستور عقب اجتياح الكويت. كما طرح فنانون آخرون بينهم الفنان عبدالله الشيخ مواضيع انسانية مهمة. لكن الرومانسية والشاعرية لا تزال الغالبة على اعمال الفنانين التشكيليين، وبدأ البعض ببلورة اساليب خاصة، لعلها تشكل بوادر المدارس الفنية التي ستميز حركة تشكيلية ناهضة في القريب العاجل. القارىء العربي لا يعرف الكثير عن الاحوال الاجتماعية في المملكة ناهيك عن الثقافة والفن، ما هو السبب بتقديرك؟ - أذكر ان الحكومة السعودية تعاقدت في عام 1964 او 1965 مع عدد من المعلمين العرب الذين قدموا فجلبوا معهم حتى الخيط والإبرة مخافة ان لا يجدوها في السعودية، وجلبوا معهم حتى الفراش والغطاء. لكنهم بدأوا يضحكون من جهلهم بعد ان وصلوا. في المملكة تجد اليوم اسواقاً لبيع اللوحات الفنية الشهيرة والمستنسخة التي يقبل المواطنون على شرائها بكثرة، وهذا يعكس الحاجة الى الفن، ولربما يعود السبب وراء ضعف اطلاع العرب على الاوضاع الثقافية في السعودية الى المكانة الدينية القيادية التي تتمتع بها، والى عدم استكمال البنية الفكرية للمجتمع السعودي بعد. وبالرغم من وجود مجلات وصحف سعودية كثيرة حتى في خارج المملكة، فالذي ينشر فيها عن النشاط الفكري الثقافي في السعودية هو قليل. ولذلك لا يصل الى الخارج الا الترر القليل من الانتاج الفني والفكري السعودي.