في احتفال رسمي في قصر الأليزيه، قلّد الرئيس الفرنسي جاك شيراك مسؤولي اللجنة الفرنسية المنظمة لمونديال 1998 ولاعبي المنتخب وأفراد الجهاز التدريبي الحاصلين على كأس المسابقة أوسمة شرف من رتبة فارس. ولعل الرئيس شيراك أراد أن يعيد الى الذاكرة ذلك المهرجان الذي انشغل به العالم طيلة أيام الصيف الماضي والإبقاء على صفحة مهمة من صفحات التاريخ الرياضي مفتوحة لأطول مدة من الزمن خصوصاً أن المناسبة كانت بالنسبة الى فرنسا حدثاً لا ينسى. ذلك أن كرة القدم أهم رياضة مارسها الجنس البشري وأن كأس العالم أهم تجمع رياضي عالمي. وانقضت مدة قصيرة نسبياً على حفل اختتام المونديال، ومع ذلك فإن المناسبة أخذت طريقها السريع الى النسيان، ربما بسبب توالي النكبات الطبيعية والحروب السياسية. المناسبة مهمة وتتجاوز حدود الرياضة الضيقة الى ما هو أعم في حقلي السياسة والإقتصاد، ولها بعد قومي وعاطفي لا يمكن تجاهله. ولولا ذلك، لما حرص رؤساء الدول على حضورها، ولما انفقت الدول إعداد منتخباتها أكثر مما تنفق على إعداد وفودها العسكرية والديبلوماسية. ويكفي أن نعرف أن عرّاب السياسة الأميركية الحديثة هنري كيسنجر أكد أكثر من مرة ان أي شرف رياضي، أو ربما غير رياضي، يعتبر ناقصاً ما لم يتوج بإنتصارات كروية. ولا أحد يعرف بصفة دقيقة حقيقة بدايات هذه اللعبة، إلا أنه من شبه المؤكد أن جمعية كرة القدم اللندنية هي أول من وضع قوانين لهذه اللعبة عام 1863 وأول من طور نظاماً للإحتراف الرياضي في هذه اللعبة وأسس دورياً لها، وحذت الدول الأوروبية القريبة فيما بعد حذو بريطانيا ونظمت بطولات مشابهة لاقت شعبية ورواجاً كبيرين، ثم تنافست فيما بينها دورياً، وما أسهم في بروزها دخول الإستثمارات الرأسمالية في هذا المجال الجديد وبروز التسجيل والنقل التلفزيوني الحي ووسائل الدعاية وما يسمى بالثقافة الكروية في شكل مؤسسات وبرامج وأدبيات. إمتداد للحرب بوسائل أخرى وكسائر الموضات الأخرى التي ظهرت في الغرب، انتشرت هذه الرياضة انتشار النار في الهشيم في جميع المعمورة وطال ذلك حتى الدول الصغيرة والفقيرة والتي كانت أكثرها مستعمرات لدول تمارس هذه اللعبة. وفي 1904، ظهرت أحدى أولى المؤسسات الدولية وهي الاتحاد الدولي لكرة القدم ثم مسابقة كأس العالم عام 1930 أي قبل 14 عاماً من ظهور هيئة الأممالمتحدة. وقبل ذلك، أطلق الفرنسي بيار دو كوبرتان أول دورة أولمبية في العصور الحديثة عام 1896. ويعتقد أن هذا التزامن لم يكن وليد الصدفة، وإنما نتيجة لتغير متواز في الظروف العالمية أثمر عن تحسن نمط المعيشة في تلك الفترة، وحصول الفرد على حقه في الاجازات، وحق العمل لساعات محددة في اليوم ما ساعده على ايجاد وقت لممارسة الرياضة. كما أن تلك الفترة كانت فترة نمو الشعور القومي والاحساس بالكبرياء الوطنية. والمعروف ان النظرة الداروينية الارتقائية للحياة كانت نمط التفكير السائد في أوروبا في فترة ما بين الحربين، ما شجع على تنظيم المسابقات الدولية لاثبات التفوق البدني ليس على الشعوب المستعمرة فقط ولكن على الشعوب البيضاء المجاورة أيضاً. والشعور القومي الأوروبي المتأجج في ذلك الوقت، كان المحرك الأول لاحياء الأصول التراثية الغربية اليونانية والرومانية وبعث الميثولوجيا اليونانية واضفاء نوع من الرومانسية عليها حتى في الرياضة. فآلهة اليونان كانوا تجسيداً لرغبة الكمال الجسماني والعقلي، وكان عدد الميداليات الذهبية التي تفوز بها دولة ما دعاية قوية لتقدمها العلمي ورفاهية شعبها. وشهدت الحرب الباردة تنافساً رياضياً محموماً بين الشرق والغرب، وكانت الرياضة كما صورها الأديب والفيلسوف الانكليزي جورج أورويل"امتداداً للحرب بوسائل أخرى". وتمشياً مع الأدبيات السائدة الآن، يمكن القول أن نوعاً من العولمة بدأ بالرياضة وبتنظيم هاتين المسابقتين على وجه الخصوص. كيف ينظرون اليها؟ وفي أيامنا هذه، لكل منا على ما يبدو فهمه الخاص لعبارة أورويل السابقة. فالأميركيون يرون في الرياضة امتداداً للحرب الاقتصادية التي يشنونها على معظم دول العالم، ولذا دخلوا في مشكلات مع الهيئات المنظمة لهذه المسابقات لأنهم نظروا اليها كمسابقات لجني الدولارات لاغير. والهوليغنز الانكليز يرون فيها مناسبة حقيقية لشن حرب مدن وعصابات على الدول التي تستضيفهم، فيحولون روحهم القومية الى عنف وفوضى بتحطيم كل ثمين وتشويه كل جميل. أما الفرنسيون فهم يرون فيها امتداداً لحربهم الثقافية والحضارية مع الثقافة الأنكلوسكسونية التي تكتسح العالم كطوفانات النينو. وفطنت بعض دول العالم الثالث الى موضوع حيوي ومهم فيما يتعلق بكرة القدم، وهو أنها تستثير جهاز المناعة القومية لدى قطاع كبير من الشعب، وتشكل بديلاً طبياً ملائماً لعلاج كثير من حالات نقص المناعة الوطنية... تلك الدول، التي تعاني في بعض الأحيان من تخلف سياسي وصناعي واقتصادي، وأحياناً أخرى تنتابها أعراض الانهزام العسكري، تجد في تجذير الادمان الكروي وسيلة ناجعة لاستنزاف العواطف ومسخ الحواس وتعويض عن بعض الكرامة المسلوبة. وفي مجال الرياضة يمكن أيضاً اتاحة حرية للتعبير شبه مطلقة وفرصة للتنفيس عن مشاعر احباط اخرى لا حدود لها. ولذا، تحظى الثقافة الكروية في تلك الدول باهتمام كبير مثل الصحة والتعليم وتُقدم للنشء في مراحل وعيه الأولى. وعندما تُوقظ كرة القدم العواطف القومية المكبوتة في دول العالم الثالث تبرز مظاهر عنف حقيقي تصيب الكثير منا بالذهول. ففي عام 1964، مثلاً، ومن جراء الغاء هدف بين الأرجنتين وبيرو قتل 309 مشجعين وجرح ما يزيد على ألف آخرين في اشتباكات مشجعي الفريقين. وفي 1970، نشبت حرب فعلية بين السلفادور وهندوراس، نتيجة لحرب كروية بين منتخبيهما. ولا تكاد تمر مسابقة لكأس العالم الا ونسمع عن ضحايا جدد لكرة القدم وحتى ولو كان ذلك الموت جزعاً بالسكتة القلبية لخسارة الفريق الوطني. من هنا، ولكل هذه الأسباب، نستشف حساسية كرة القدم، ونتصور الصعوبات التي تواجه الدول التي تنظم مسابقات كأس العالم. إن تنظيم مسابقة كأس العالم أشبه بإقامة حفلة عرس يشاهدها جميع مواطني الكرة الأرضية. وفي حفلات الأعراس عادة، يكون اللوم تحصيل حاصل للمضيف مهما أجزل واجتهد، ويركز المدعوون عادة على تصيد أخطاء المضيف ونواقصه ويصرفهم ذلك عن النظر الى ما قدمه، ويكون المضيف في أحسن الأحوال كالشعير مأكولاً مذموماً. ولاننسى الضغوط المحلية من الجماهير المتأزمة المتأهبة والتي لاترضى بأقل من الكأس الذهبية. لذا، فإن تنظيم البطولة وسط هذه التبيانات يحتاج الى تخطيط محكم للخروج بوضعية متوازنة. لقد حملت كأس العالم في فرنسا مفاجآت جديدة على أكثر من صعيد، أصابت واحدة منها الفرنسيين أنفسهم من خلال حصولهم على كأس العالم في مباراة نهائية ضد الدولة العظمى في كرة القدم، البرازيل. ومن المفاجآت الكبرى، التنظيم الرائع والمبدع الذي قام به الفرنسيون. فهم أدركوا فعلاً الظروف العالمية المتغيرة التي تمر بها الانسانية في هذا الوقت بالذات من ميل الى اعادة احياء النزعات القومية والعرقية وانتشار حروب الانفصال والتطهير العرقي. وكذلك أخذوا بعين الاعتبار عملية الاحتقان العرقية التي تعصف بفرنسا ذاتها والتي تحاول أحزاب اليمين المتطرف الانتهازية الاصطياد في مائها العكر. ونجح الفرنسيون في استغلال هذه التظاهرة العالمية بشكل جديد مبدع ورائع، حيث عقدوا العزم من البداية أن يجعلوا عرسهم عرساً لأهل الحي جميعهم، ونجحوا في ذلك الى حد يحسدون عليه. إمتنان للعالم وليس عليه الفرنسيون الذين أدركوا عالمية هذه المناسبة، وضربوا مثلاً رائعاً في التخاطب غير المباشر مع عقول وأفئدة مئات الملايين من النظارة المتطلعة لبلادهم، نظموا هذه المناسبة، كاحتفال بالتاريخ الانساني أجمع تمثل فيه قاراته الأربع بشكل متساو وبديع، وكذلك تلافوا الخطأ الذي وقع فيه الأميركيون الذين جعلوا حفل افتتاح كأس العالم السابقة يدور حول تخليد اسطورة كريستوفر كولومبوس والموسيقى الأميركية المحلية. في باريس.، كان الرقص والموسيقى يحيكان قصة تطور الجنس البشري، وليس فرنسا وحدها أو أوروبا خاصة. وضمت الأشكال السريالية والأزياء التعبيرية التي حرص المنظمون علي ابرازها بشكل لافت طيلة المهرجان قمة التمثيل الحضاري لقصة التطور البشري، كما عكستها الأشكال التي مازجت بين الماضي والمستقبل، بين الشعوذة وتكنولوجيا الروبوت، بين بساطة الموسيقى المتوحشة البدائية والروح التعبيرية المعقدة لموسيقى العصر الجديد... لم يكن الكرنفال كروياَ فقط بل كرنفالاً ثقافياً وحضارياً أيضاً تمازجت فيه الأجناس الفنية والثقافية التاريخية للشعوب بشكل ذكي شيطاني وفي قالب فكري ما بعد حداثي. فتماثيل القارات الأربع ذات الشكل التعبيري البدائي والأحجام الفلكية التي تسيرها تكنولوجيا القرن الواحد والعشرين في تناقض جميل ومعبر، جعلت الاحتفال الكبير يبدو وكأنه تتمة للمغامرات الفنية والأدبية التي كانت فرنسا سباقة اليها حتى في أهم معالمها الحضارية كمركز بومبيدو، وأهرام ساحة اللوفر، أو برج الديفانس. وعندما انفطرت كأس العالم التي شكلت حول المسلة المصرية أقدم شاهد لأعظم حضارة - نزلت منها حسناء فرنسية خلفت لدى المشاهدين انطباعاً بأنها تمثل على الأقل الثورة الفرنسية أو البطلة القومية الفرنسية جان دارك التي حاربت الانكليز، الا أن المفاجأة كانت في نزول أربع حسناوات أخريات ليثبتن رغبة المضيفين واصرارهم على عالمية المهرجان. والجميع يعرف أن التواضع الجم ليس من سمات الشعب الفرنسي، وأن الفرنسيين يرون أنهم هم من أسس حركة التنوير السياسي والقانوني في العالم بثورتهم المشهورة التي فتحت الباب على مصراعيه للوعي الانساني العالمي وحقوق البشر المستضعفة، والتي صادف بداية الإحتفال بها مباشرة مع نهاية حفل المونديال... ومع ذلك، فإن تأكيد الذات لا يتأتى بالشوفينيه والنرجسية ومحاولة إعلاء كعب النفس على حساب الذوات الأخرى، وإنما يكون بمحاولة التقرب للآخر، وتكوين رؤية واحدة مشتركة للعام معه، تكون بفعل الفضيلة لا بالكلام عنها. وهذا ما يفسر كيف تقبل العالم فوز فرنسا بكأس العالم للمرة الأولى في تاريخها بصدر رحب... الفرنسيون لم يظهروا امتناناً على العالم لتنظيم هذه المسابقة، وانما أظهروا امتناناً له، ما جعل العالم يتعاطف معهم ويستمر في احتفاله معهم بالرابع عشر من يوليو، عيد الثورة الفرنسية، كعيد عالمي. ومن الدروس المستفادة، التجانس اللافت لمنتخب فرنسا الذي تمثلت فيه أغلبية أعراق الشعب الفرنسي وألوانه... وكان زين الدين زيدان فارس المونديال ذو الأصل الجزائري، في مستوى المناسبه، وجعل تواضعه الجم وروحه الرياضية العالية تتكلم عنه. وقد استثمر الشعب الفرنسي هذه المناسبة العالمية لغسل الصورة التي ألحقت به وصورته على أنه شعب عنصري، سواء ضد السود أو العرب، وقدم للعالم صورة جميلة عن بلاده غير تلك التي شوهها سيء الذكر جان ماري لوبن ومن تشبه به من أحزاب اليمين الانتهازية المتأرجحة. وجاء المونديال ليعطى بطاقة حمراء للنظرة الدونية للملونين في فرنسا. وأثبت الفرنسيون في أقصى درجات انفعالهم، وفرحهم أنهم شعب واحد متماسك متناسين فوارقهم واختلافاتهم ، وكان أن أعلن زيدان، ابن المهجر العربي، رئيساً للجمهورية ليوم واحد، وكتبت عبارات الشكر له على قوس النصر، أهم معالم باريس. يمكن القول أن مأساة الفرنسيين من أصل عربي تكمن في فقرهم، والفقر والحاجة من أهم عوامل استجلاب الاستعلاء والعنصرية. وهي مسألة يمكن تصحيحها بتوظيف الاستثمارات العربية الضخمة في فرنسا، وبالتالي يمكن أن يشكل هؤلاء الفرنسيون - العرب استثماراً يعود بفائدة كبيرة على المدى البعيد للبلدان العربية ويكونون جسراً لعلاقة متينة متوازنة مع فرنسا وأوروبا، لا سيما أن هناك الآن نوعاً من الإنفتاح الفرنسي على العالمين العربي والإسلامي جدير بالإهتمام، وأن مواقف فرنسا من القضايا العربية هو الأكثر اعتدالاً بين الدول الغربية. وفي الختام، وبالرغم من الخسارة الرياضية العربية في المونديال، لايزال المجال مفتوحاً للإستفادة من الجوانب الأخرى الحضارية والاعلامية والسياسية وتحقيق انتصارات فيها. جامعي سعودي - جامعة الملك سعود