عند مراجعة تاريخ العلاقات العربية - الدولية يعرب فريق من المعنيين بقضايا الشرق الاوسط عن اعتقاده بأن تمسك العرب بحقوقهم في قضية فلسطين، كان من العوامل الرئيسية التي أدت الى تراجع الاوضاع الاقتصادية والسياسية في الدول العربية. استطراداً، يقول هذا الفريق أنه لو تخلت الدول العربية عن هذا الموقف لأنفتحت أمامها ابواب النهوض الاقتصادي والسياسي ولتيسر لها الحصول على "عائدات السلام". خلال شهر تشرين الاول اكتوبر الجاري تمر الذكرى الخامسة والعشرين لحرب عام 1973 بين العرب والاسرائيليين، أي لفصل من فصول الصراع بين الطرفين يوفر مادة تاريخية لمناقشة هذه النظرية وما ينبني عليها من استنتاجات. الاعداد لحرب تشرين الاول اكتوبر كان وليد ثلاثة قناعات انتشرت في الاوساط العربية المعنية: الاولى، مفادها ان العرب لن يستطيعوا "ازالة آثار العدوان" واخراج اسرائيل من الاراضي التي احتلتها عام 1967 عن طريق العمل الديبلوماسي وحده. وبتأثير هذه الفكرة انكبّت القيادات العربية، خصوصاً في مصر وسورية على اعادة بناء القوة العسكرية العربية بعدما اصيبت في حرب حزيران يونيو بضربة قاصمة. القناعة الثانية هي ان بناء القوة الذاتية هو العامل المهم في تحقيق الاهداف العربية، فالتحالفات الدولية، حتى وان كانت متينة وقوية، لا تضمن للطرف العربي مصالحه وحقوقه. القناعة الثالثة تلخصت في أنه اذا ارادت الدول العربية ان تخرج اسرائيل من هذه الاراضي فعليها ان تسعى الى تحقيق هذه الغاية عن طريق العمل الجماعي، أي عبر التعاون والتضامن والتنسيق مع بعضها بعضاً. هذه الأفكار لم تتبلور في برامج ومشاريع عربية محكمة ومتماسكة، ولا في تخطيط بعيد المدى، اذ بقي هناك تباين واسع بين القيادات العربية حول جملة من قضايا الحرب والسلم، ولم يتجاوز التحضير الجماعي لحرب 73 المدى الزمني القصير. على رغم هذه الثغرات، تمكنت الدول العربية من التوصل الى حد معقول من التنسيق في ما بينها، ومن استخدام وسائل الضغط العسكري والاقتصادي على الاسرائيليين وعلى حلفائهم الدوليين بقصد تحقيق الاهداف العربية المشتركة. هذا العمل أدى الى نتائج ايجابية كثيرة، والى عوائد لم يتوقعها حتى بعض الذين شاركوا في اعداده وتنفيذه. فعلى صعيد تحرير الارض العربية من الاحتلال اعيد طرح هذه القضية بقوة على المجتمع الدولي، واقحمت "... باسلوب قاس في صلب الاهتمامات السياسية الاميركية، بعدما كانت اختفت من أجندة واشنطن قبل حرب اكتوبر" كما قال ويليام بولك، استاذ التاريخ في جامعة شيكاغو في كتابه "العالم العربي". وكما تبدلت النظرة تجاه هذه القضية، تغيرت النظرة تجاه اصحابها ايضاً، فالعربي الذي كان قلما يلقى الترحيب في المطارح المتحضرة، بات قبلة انظار قادة السياسة والاقتصاد في العالم، كما جاء في الكتاب نفسه. لقد شعر هؤلاء بأن الدول العربية تستطيع ان تستخدم ارصدتها العسكرية والاقتصادية بكفاءة، وان تبادر عندما تكون المبادرة ضرورية، وان تلجأ الى التصعيد عندما تجابه بالصد والتعنت والاستخفاف بمصالحها وحقوقها الحيوية والتاريخية. لجوء الدول العربية الى المجابهة أثار ردود فعل سلبية لدى بعض القيادات الغربية المعنية بقضايا الشرق الاوسط. هذه القيادات، خصوصاً هنري كيسنجر وزير خارجية الولاياتالمتحدة عام 1973، بذلت جهداً خاصاً من أجل حرمان الدول العربية من كل العوائد التي حصلت عليها خلال الحرب. ولكن بالمقابل يمكن القول بأن لجوء الدول العربية الى الحرب، أفسح المجال امام قيادات اخرى لتأكيد ضرورة اتباع دول الغرب سياسة أكثر توازناً في التعامل مع العرب والاسرائيليين، وللتشديد على اهمية مراعاة المصالح الغربية مع العرب بدلاً من الانحياز الى جانب اسرائيل. وبتأثير من هذه القيادات اتخذت حكومتا فرنسا وبريطانيا قراراً بمنع أمداد اسرائيل بأي نوع من انواع السلاح أو حتى الذخائر خلال الحرب، كما جاء في مذكرات ابا ايبان، وزير الخارجية الاسرائيلي السابق. وبتأثير من هذه القيادات عارض البنتاغون الاميركي وخصوصاً وزير الدفاع جيمس شليسنجر لأيام، خلال الحرب، اقامة جسر جوي بين الولاياتالمتحدة واسرائيل لإمداد الأخيرة بالسلاح، كما اوضح ريتشارد نيكسون، رئيس الجمهورية الاميركي، في مذكراته. كما تمكنت الدول العربية من تحريك قضية الاحتلال الاسرائيلي للارضي العربية، فإنها استطاعت أن تحصل على عوائد كبيرة عندما اعلنت المقاطعة النفطية للدول التي تدعم اسرائيل. والشائع هنا ان المقاطعة كانت وسيلة لتخليص الاراضي العربية من الاحتلال وفي اطار الصراع العربي - الاسرائيلي، هذا صحيح، لكنه لا يلخص هذا الجانب من حرب 73. ذلك ان المقاطعة كانت فصلاً من فصول كفاح الدول النفطية من أجل تعزيز دورها في تحديد سعر النفط وأوجه تسويقه وانتاجه. فالدول المستهلكة لهذه الطاقة التي كانت تحتكر هذا الدور كانت تشتريه من مصدّريه قبل حرب 73، بسعر القاذورات، كما قالت مجلة "التايمز" الاميركية 7- 5- 1998. حرب 73 أسفرت عن تصحيح هذا الواقع بمضاعفة سعر النفط اربع مرات، ووفرت للدول العربية مداخيل ضخمة على نحو قل حدوثه من قبل. لم تستخدم المداخيل النفطية افضل انواع الاستخدام، قسم كبير منها استخدم في الحرب ضد الجيران، وقسم آخر لم يغادر بيوت المال في الدول المستهلكة للنفط. رغم ذلك، فإن ما انفقته الدول العربية من عوائد 73 ساهم مساهمة كبيرة في مشاريع العمران وفي تطوير وتوسيع وتعمير البنى التحتية الداخلية، وعجل في مشاريع التنمية البشرية والاقتصادية. وبفضل تلك العوائد امكن، على سبيل المثال، تطوير شبكات المواصلات البرية والبحرية والجوية داخل البلاد العربية وفي ما بينها كما بين عدد من المساهمين. تجاهل القائلون بالسلام العربي - الاسرائيلي الدافئ عوائد 73، وانصرفوا في التسعينات الى التركز على عوائد السلام المرتقبة. فعندما وقعت القيادة الفلسطينية على اتفاق اوسلو مع اسرائيل، قبل خمس سنوات تقريباً، توقع مؤيدو الاتفاق ان تتحول غزة الى "سنغافورةفلسطينية". وعندما وجهت انتقادات فلسطينية شديدة الى الاتفاق، قيل انه مهما كان حجم الانتقادات فإن عوائد السلام كفيلة بإقناع المنتقدين بالتراجع عن موقفهم. بعد مضي خمس سنوات على الاتفاق، اصبحت الاوضاع الاقتصادية الفلسطينية اكثر سوءاً من الماضي، فالمداخيل تراجعت، كذلك القوة الشرائية والاستثمارات الخاصة، كما قالت صحيفة "هيرالد تريبيون" الاميركية 16- 9- 1998. هذه الاوضاع لم تفضِ الى تراجع اقتصادي فحسب، بل الى ازمة متعددة الابعاد اقتصادياً وسياسياً "والى تراجع في الآمال ايضاً" في رأي المسؤول الاميركي في ادارة كلينتون ستيوارت ايزنستادت. قد يكون هذا التراجع عائداً الى التعقيدات الكثيرة التي لا تزال تؤثر على العلاقة بين السلطة الفلسطينية واسرائيل. هذا النوع من التعقيدات لم يظهر على شاشة العلاقات الاسرائيلية - الاردنية إلا في حالات استثنائية ولاسباب غير اردنية في اكثر الحالات كما حدث عند محاولة اغتيال خالد مشعل احد قادة حماس فهل استطاع الاردن الذي التزم بدقة نصوص اتفاقه مع وروحه اسرائيل، ان يحصل على "عوائد السلام"؟ تجيب صحيفة "جيروزاليم بوست" الاسرائيلية على مثل هذا التساؤل بقولها ان "الحقيقة اليوم هي أقل بكثير من التوقعات العريضة. فمشاريع اقتسام المياه وضعت على الرف، اما مشاريع الاستثمارات والصناعات الاسرائيلية في الاردن فلم تتحقق، بينما ترفض السلطات الاسرائيلية اعطاء الاعداد الكبيرة من الاردنيين الذين يبحثون عن عمل في اسرائيل الاذونات الضرورية" 5- 10- 1996. ولا تعني الاوضاع التي اشارت اليها الصحيفة الاسرائيلية ان الاردن لم يحصل على بعض العوائد، كما ان ما جاء على لسان ايرنستادت، لا يعني ان منطقة السلطة الفلسطينية لم تحقق بعض الفوائد المحدودة من اتفاق اوسلو. فلقد أعفت الولاياتالمتحدةالاردن من ديون بقيمة 750 مليون جنيهاً، كما ان السلطة الفلسطينية تلقت مساعدات مالية من الدول المانحة التي تبنت الاتفاق مع اسرائيل. الا ان هذه العوائد لا تشبه في شيء الفوائد والارباح المتوقعة من "عملية السلام" ولا تعوض الخسائر التي لحقت بالاردنيينوالفلسطينيين من جراء حال الاضطراب التي اصابت البلاد العربية بعد الاتفاقات الثنائية مع اسرائيل. لم تكن هناك عوائد نمو التجارة والعلاقات الاقتصادية والسياسية الطبيعية بين اسرائيل، من جهة، وجيرانها من جهة اخرى، كما كان متوقعاً، بل كانت هناك مكافأت محدودة اعطيت الى اطراف عربية بغرض تشجيعها على فك ارتباطها بدول الجوار العربي، والالتحاق بالاقتصاد الاسرائيلي. ان هذه العوائد السياسية او الاقتصادية التي اسفرت عنها "عملية السلام" لا توازي العوائد التي حصلت عليها الدول العربية كلها، والتي حصل عليها الاردنيونوالفلسطينيون عقب حرب 73، أي عندما توصلت الدول العربية الى حد معقول من التنسيق والتعاون والتضامن في ما بينها، وعندما قررت الدفاع عن مصالحها الحيوية حتى ولو اضطرها ذلك الى دخول المجابهات الحامية مع قوى دولية نافذة. * كاتب وباحث لبناني.