المتابع لنشرات الأخبار والتعليقات الصحافية يلمس تعالي وتيرة التهديدات التي يطلقها المسؤولون الأتراك ضد سورية، والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا الآن وما خلفية وأسباب هذه التهديدات ضد هذا البلد الجار؟ ان نظرة متفحصة على خلفية النزاع التركي - السوري تقودنا بالتأكيد الى محورين، أولهما عدم الاستقرارالداخلي الذي تعاني منه تركيا بسبب المشكلة الكردية والصراعات بين الأحزاب التركية المختلفة، وثانيهما الصراع على مصادر المياه وأقصد هنا نهري دجلة والفرات اللذين ينبعان من تركيا. والمؤكد أن تركيا تحاول استعمال هاتين الورقتين للضغط على سورية لأن سورية تتعاطف مع حزب العمال الكردستاني الذي يحارب من أجل الحصول على حقوق الشعب الكردي الثقافية والسياسية في تركيا، معتمداً على حوالى 20 مليون كردي يعيشون في تركيا ولا يتمتعون بهذه الحقوق، وفي المحصلة فإن هذه مشكلة تركية داخلية تكمن عوامل استعارها في عدم اعتراف الدولة التركية بحقوق هذه المجموعة السكانية، فضلاً عن القمع المستمر للحركات التركية الأخرى التي تحيد عن خط النخبة العسكرية القابضة على مقاليد الحكم الحقيقية، فقمع الحريات في تركيا مسألة مؤكدة لدى المنظمات الحقوقية الدولية وهذا ما تأكد لي أثناء زيارة الى تركيا ضمن وفد أوروبي من دول أوروبية عدة، وتسنى لنا خلالها الالتقاء بالناشطين الأتراك في هذا المجال والذين تعرضوا لأصناف الاضطهاد والملاحقة بسبب مواقفهم السياسية أو دفاعهم عن حقوق الانسان. وفي ما يتعلق بالمحور الثاني وهو مصادر المياه، فإن تركيا تتصرف في هذه المصادر من دون اعتبار مصالح الجارين سورية والعراق وتقوم ببناء شبكة ضخمة من السدود، وقامت سابقاً بقطع المياه عن الدولتين لمدة شهر بحجة ملء السدود من دون التشاور والتنسيق معهما. وفي خضم هذه المعمعة يأتي الدور الاسرائيلي الذي لا يمكن تغييبه في تصاعد وتيرة التهديدات التركية ضد سورية، فلاسرائيل مصلحة حيوية في اضعاف سورية من أجل ابتزاز مواقف منها في مفاوضات السلام الشرق اوسطية، لا سيما ان سورية ومعها لبنان يتمسكان بالثوابت التي أقرتها هيئة الأمم والمجتمع الدولي لحل النزاع الشرق أوسطي بشقيه السوري واللبناني. ومن هنا تلتقي المصالح التركية والاسرائيلية في الحد من قدرات سورية على المناورة وعدم الرضوخ للاملاءات، ويتجسد ذلك في التحالف التركي - الاسرائيلي العسكري الذي في محصلته يضع سورية بين فكي كماشة ويجعلها عرضة للضغوط والتهديدات. ما يلفت النظر في التهديدات التركية هذه انها جاءت بعد ان اعلن حزب العمال الكردستاني عن هدنة من طرف واحد ومحاولته البحث عن بدائل تفاوضية كما يعلن وكما يفهم من خطواته، لكن المسؤولين الأتراك، على ما يبدو، غير معنيين بذلك لأسباب داخلية مؤداها استغلال فزاعة حزب العمال الكردستاني لاستمرار وضع القمع القائم في تركيا واستمرار سيطرة العسكر على الحكم وان من وراء حجاب، ويستغرب المتابع للأحداث اعلان اسرائيل تخفيض جاهزية قواتها في هضبة الجولان ولسان حالها يقول: عليك يا سورية بالرد ولا تخشي جانبنا، لكن ما يثلج الصدور هو وعي وحكمة القيادة السورية لهذه الألعوبة وعدم الانجرار وراء تصعيد التوتر من جانبها، بضبط النفس والتأكيد على أن النزاع يحل بالطرق الديبلوماسية. وأخيراً عقد البرلمان التركي اجتماعاً القى فيه رئيس الوزراء مسعود يلماز خطاباً أكد فيه استمرار التهديدات ومحاولة فرض شروط على سورية حتى تتوقف تركيا عن التلويح بعصا الحرب في ما يبدو فهماً خاطئاً من جانبه لضبط النفس الذي تمارسه سورية انطلاقاً من أنه ليس هناك أي مصلحة لها في الحرب مع تركيا الجارة. وفي هذا الاطار جاءت مبادرة الوساطة المصرية التي قام بها الرئيس مبارك لتدارك الأمور لأن تطور الأحداث على الساحة التركية يسير باتجاه التصعيد وحشد الرأي العام التركي وراء الحكومة والنخبة العسكرية التي بيدها مقاليد الأمور الحقيقية في تركيا لابعاد الأنظار عن المشاكل الداخلية، والنتائج الأولية لهذا التحريض هي الحملات الصارخة وقرع طبول الحرب التي تروج لها وسائل الاعلام التركية ومحاولة فرض شروط مسبقة على سورية. ومما يجدر ذكره ان اشتعال حرب بين البلدين، لا قدر الله، سيكون كارثة على المنطقة التي لم تتعاف من الحروب والنزاعات السابقة. وبالتأكيد سيكون الخاسر هما الشعبان التركي والعربي. ولا يخفى على القارئ ان الرابح الوحيد هو اسرائيل وبارونات السلاح. كما ان هذه الحرب سوف تضر بمستقبل العلاقات العربية - التركية لأجيال قادمة، لا سيما ان لتركيا مصالح حيوية في العالم العربي أهمها تطلعات تركيا لأن تصبح سلة غذاء العالم العربي ومصدر المياه الذي يمكن أن تقايضه بالنفط في منطقة تتميز بنقص حاد في مصادر المياه. وينتظر الجميع من تركيا ان تبتعد عن العصبية وتتحلى بضبط النفس وان لا تضع نفسها في الخانة الاسرائيلية لأن تركيا بلد جار تجمعه مع جيرانه العرب روابط تاريخية وثقافية ودينية تمكنها ان تلعب دوراً أساسياً في تطور المنطقة وتكاملها، وبالذات بعد أن تأكد لتركيا ان الباب مغلق أمامها لدخول النادي الأوروبي لرفض الأخير بحث مسألة انضمامها الى الاتحاد الأوروبي لأسباب معلنة هي وضع حقوق الانسان في تركيا، وهذا واضح للعيان، ولكن، هناك سبب آخر لهذا الرفض مختلف قطعياً عما هو معلن وهو العامل الثقافي والديني. ويبقى أن نقول ان تفجر الوضع الداخلي وأزمة الحكم في تركيا لا تبرران لها تهديد سورية البلد الجار، وان على تركيا فتح باب الحوار المباشر والاستجابة للوساطات والتوجه الى المحافل الدولية والاقليمية وعلى رأسها منظمة المؤتمر الاسلامي التي هي عضو فيه، هذا اذا استدعت الضرورة ذلك، وبالذات لأن سورية ليس لها مصلحة في استعداء تركيا واستفزازها أو الاضرار بمصالحها الحيوية التي تتناسب مع المصالح التركية في كثير من الجوانب، وذلك للأسباب والعوامل سالفة الذكر. ونستشف من ضبط النفس الذي تمارسه سورية على كل الساحات الاعلامية والداخلية والدولية وتجنبها ارسال القوات الى حدودها مع تركيا وعيها للعبة التي تكمن خلف هذه التهديدات، لأنها بحق لا ترغب بالدخول في حرب مع تركيا لأسباب اهمها التهديد الاسرائيلي المتواصل لأمنها. وهي تعي تماماً أن من يقف خلف هذه التهديدات ليس الشعب التركي وأحزابه الديموقراطية بل هم الجنرالات المتحالفون مع اسرائيل. من هنا نأمل أن يعي الطرفان خطورة الوضع الذي يمكن أن ينشأ، لا قدر الله، وان يبذلا كل الجهد للحؤول دون ذلك. وعلى تركيا بالذات ان تعي ان من السهل اعلان الحرب ودخولها، ولكن يصعب الخروج منها. * نائب عن ولاية شمال الراين - وستفاليا في البرلمان الألماني.