يتحدّث الإعلام الغربي والعربي عن الحضور النسائي، على الصعيد السياسي والعسكري والإداري، داخل حزب «العمال الكردستاني» بزعامة جميل بايك، في سورية والعراق وإيران وتركيا، على أن ذلك يعكس مدى التطوّر الذهني والفكري والأيديولوجي والتنظيمي داخل هذا الحزب، وأن الأخير يعتبر طفرة، وظاهرة باهرة، وقصّة نجاح عظيم. هذه الأسطر، وما سبقها من مقالات، كذلك يُنظر إليها أنصار الحزب على أنها محاولة ل «شيطنة» الحزب، و «تشويه سمعته»، و «خيانة وعمالة للنظام التركي» و «في إطار نيل الرضا من المعارضة السوريّة»...، لكن الحزب بما يمتلكه من ترسانة إعلاميّة وحشد من الكتّاب الحزبيين الملتزمين، وكتّاب كرد آخرين، هم أصدقاء الكتّاب الحزبيين، عاجز عن الردّ بالحجّة والبرهان البيّن المقرون بالوثائق والأدلّة التي تفنّد الأفكار والمقالات الناقدة له ولأدائه السياسي والعسكري والفكري والإداري! ومع ذلك، يجتهد بعض الكتّاب والمثقفين العرب والأجانب، وحتى بعض الكرد أيضاً، الذين يزورون المناطق الكرديّة السوريّة التي يسيطر عليها «العمال الكردستاني»، سيطرة مطلقة ومطبقة، من خلف الستار، ويضع لنفسه واجهات شكليّة، عبر فرعه السوري، «الاتحاد الديموقراطي»، في تدبيج التقارير والمقالات والتحقيقات الصحافيّة، وربما إعداد أفلام وثائقيّة أيضاً، تتحدّث عن ظاهرة «العمال الكردستاني»، باعتبارها نموذجاً فريداً يحتذى به. والحقّ أن أغلب تلك المقالات والتقارير والأفلام الوثائقيّة، تلامس السطوح، ولا تغوص في العمق، بل تتجنّب الخوض في ذلك، إمّا عن جهل بالتجربة وتعقيداتها الداخليّة، أو عن عمد. بحيث تصبح تلك المقالات والتقارير والأفلام أشبه أو أقرب إلى أن تكون حصيلة سياحة صحافية، «ثوريّة»، قوامها الافتتان والانبهار والنمذجة. وتتجاهل الموجودين في سجون سلطة «العمال الكردستاني» في كردستان سورية، ومظاهر القمع والاستبداد اللذين يمارسهما الحزب على المختلفين معه. قبل أيّام، انشغلت صفحات مواقع التواصل الاجتماعي بتشكيل «كتيبة عسكريّة للمثليين» تقاتل في الرقّة. تلقّف الناقمون والمعارضون ل «الكردستاني» من الكرد والعرب، بازدراء وسخرية شديدين، هذا الخبر. في حين نفى أنصار «الكردستاني» الخبر على انه «فبركة من فبركات الحرب الخاصة التركيّة، لتشويه سمعة الكردستاني» والكثير من الكلام السخيف الذي ينضح بالجهالة وعدم الاحترام حتّى لمحرّكات البحث على شبكة الانترنت، وفي مقدّمها الرفيق المناضل: غوغل. ذلك أنه بمنتهى البساطة، تمّ معرفة مصدر الخبر وهو مجلة «نيوزويك» الأميركيّة، ولم يكن الإعلام التركي أو «الائتلافي» السوري المعارض. طبعاً، نفت «الوحدات العسكريّة الكرديّة» الخبر، مع إبداء الاحترام لحقوق المثليين. وأظهر الحزب نفسه في قمّة الديموقراطيّة والتمدّن واحترام حقوق المرأة والمثليين... الخ. والحق أن النفي «العمالي الكردستاني» كان للاستهلاك الداخلي، بينما على الصعيد الأوروبي والأميركي، يسعى الحزب إلى تنصيع صورته على أنه أفضل التنظيمات السياسيّة والفكريّة والعسكريّة الشرق أوسطيّة المنسجمة مع التوجّه الغربي في المنطقة، قياساً بالانظمة والتنظيمات التكفيريّة. كل ذلك، بهدف التسويق الذاتي في الإعلام الأوروبي والأميركي، بغية الحصول على المزيد من الدعم العسكري والمادي، وحتى ولو كان ذلك بنشر أكذوبة تشكيل كتيبة للمثليين في الرقة. لماذا هي أكذوبة؟ لأن من يعرف التفاصيل الداخليّة في الحزب، ومطّلع على تفاصيل تعامله مع المثليين، وحتى على صعيد حريّة المرأة أيضاً، يدرك تماماً منسوب التضليل والاختلاق الحاصل في عملية التسويق للحزب. وأن التعامل مع قضية تحرر المرأة وقضية حقوق المثليين، هي محض استثمار، لا أكثر. وهذا بقرينة تاريخ «العمال الكردستاني» الحافل بأحداث شديدة الوضوح تفنّد روايتيّ الحزب الداخليّة الكرديّة، والخارجيّة. فعلى صعيد قضيّة المرأة والاحتفاء بالمقاتلات الكرديّات الموجودات ضمن «الكردستاني» وأفرعه، تتجاهل أو تجهل تلك المقالات والتقارير الآنفة الذكر، عشرات الآلاف من الفتيات اللاتي هربن من صفوف «الكردستاني» والأسباب التي أدّت بهم للهرب والانشقاق! ولا يعرف أصحاب تلك التقارير والمقالات الصحافيّة أن «الكردستاني» قام بتصفية المئات من المقاتلات، بتهم شتّى، منها ما هو اجتماعي وعاطفي والاشتباه بعلاقة حبّ ما. ويمكن سرد أسماء العشرات منهنّ، لكن فقط اكتفي بذكر نماذج، كجميلة يلدرم، (زوجة أحد مؤسسي «الكردستاني» علي حيدر قيطان الموجود حاليّاً في جبال قنديل)، حيث تمت تصفيتها عام 1982. وكانت هذه أول جريمة تصفية لامرأة داخل «الكردستاني». كذلك تمت تصفية المقاتلة جيان باكسي، شقيقة الروائي محمود باكسي في الجبال. وتصفية المقاتلة بنفش محمد من كرد سورية، وتصفية روشن قامشلو في أوروبا، بسبب هربها من سائق أوجلان، أحمد كوباني. وربما يقول قائل: هذه أحداث قديمة، و «الكردستاني» تغيّر بعد اعتقال زعيمه!؟ ولكن تكفي الإشارة إلى حادثة تلك الفتاة التي تمّ ربطها بعمود الكهرباء في حي الشيخ مقصود بحلب، في مطلع الثورة السوريّة عام 2011، بتهمة أنها تروّج للدعارة. وتم الطعن في شرف الفتاة الكرديّة وكرامتها، وعلّقوا لوحة في عنقها، كُتب عليها: «من لم يبصق عليّ، فهو عديم الشرف». واتضح في ما بعد أن الفتاة هي أخت أحد النشطاء الكرد المنخرطين في الثورة على نظام الأسد. ليس هذا وحسب، بل قام أنصار «الكردستاني» بتقديم فيديو هذه الفتاة للمنظمات الأوروبيّة والدوليّة، على انها فتاة مسيحيّة، ومن قام بهذا الفعل هم متطرّفون إسلاميون، معارضون لنظام الاسد! تضليل مزدوج. الحقّ أنه هنالك أشخاص ضمن الطاقم الاستشاري أو الإعلامي لفرع «العمال الكردستاني» داخل سورية، يقدّمون أفكاراً «إبداعيّة» في عمليّة التضليل والتسويق للحزب غربيّاً. وآخر تلك الأفكار «الإبداعيّة» كانت فذلكة «كتيبة المثليين في الرقة». وهذه الأكذوبة المضللة، والحديث عن حريّة المرأة، ربما يمكن أن يقنع أشخاصاً عرباً وأجانب ممن يجهلون تاريخ الحزب والتفاصيل الداخليّة فيه. لكن الأمر معروف ومكشوف أمام أعضاء وأنصار الحزب القدامى، المنشقّين عنه. من جانب آخر، يبدو أن «الكردستاني» نجح في غرس بعض أنصاره من الصحافيين في بعض وكالات الأخبار الدوليّة وقنوات التلفزة كمراسلين، بهدف التركيز على نقل أخبار المعارك التي يخوضها الحزب ضد «داعش» فقط، والتكتّم على الانتهاكات والخروقات والجرائم التي يقترفها الحزب بحق معارضيه في المناطق الكرديّة السوريّة. في غضون ذلك، بين الفينة والأخرى، نقرأ هنا أو هناك، مقالات رأي مؤيّدة ل «الكردستاني» وتحاول تخفيف الضغط عليه، عبر التماس الأعذار والمبررات لسقطاته وانتهاكاته وجرائمه، ليس حبّاً في «الكردستاني» بل كره في الكثير من فصائل وشخصيّات المعارضة السوريّة الغارقة في الفاشيّة والطائفيّة المقيتة. وعليه، هذا النسق المهترئ والطائفي من المعارضة السوريّة، يعزز مكانة «الكردستاني» وفرعه السوري لدى الأوساط الكرديّة، غير الموالية للحزب، إذ يظهرون وكأنّهم موالون له. والحقّ أن الفرع السوري ل «العمال الكردستاني» كان «يتكهرب» سابقاً ويصاب بالهلع، وينزعج أيّما انزعاج، حين تتم مقارنته بتنظيم «داعش» الإرهابي، وتفضيل الأوّل على الثاني، لجهة الحضور النسائي والعلمانيّة، وصرامة التنظيم، والتفاني والإخلاص في العمل...، على أن هذه المقارنة ظالمة، مجحفة وغير جائزة إطلاقاً، حتى ولو كانت نتائجها لمصلحة الكردستاني. أمّا الآن، فأنصار الحزب يحتفون، أيّما احتفاء، بهكذا مقالات وتقارير تنحو هذا المنحى. وهذا لا يعكس تطوّراً ذهنيّاً أو نقلة نوعيّة في الخطاب السياسي والإعلامي للحزب أو أنماط التفكير لدى أنصاره، بقدر ما يعكس المأزق الأخلاقي والسياسي الذي يعيشونه، والحاجة الى هكذا مقالات وتقارير، ترتق عيوب وقبائح الحزب في الإعلام العربي والغربي. بخاصة أن هذه المقارنة، تأتي في إطار التسويق للحزب عربيّاً وأوروبيّاً وأميركيّاً، بهدف الحصول على المزيد من الدعم والصمت على انتهاكات واستبداد هذا الحزب بحق المعارضين له. أعتقد أن التقارير ومقالات الرأي وحتى الأفلام الوثائقيّة التي تحاول نمذجة «العمال الكردستاني» وأسطرة حراكه النسائي والاجتماعي والفكري، إن كان هنالك ما يبررها فهو إرهاب «داعش» وكل تفريخات «السلفيّة الجهاديّة» الإرهابيّة. في حين أن ظاهرة «الكردستاني» الشديدة التركيب والتعقيد بحاجة إلى التحليل والتفكيك والنقد الممحص المستند على الأدلّة والقرائن الموثّقة، أكثر من الحاجة إلى البروباغندا التي تسقط في الديماغوجيّة الفجّة، في شكل مباشر أو بغيرها، عن دراية وعلم وسابق إصرار وتصميم أو من طريق الجهل بتفاصيل ماضي وحاضر تجربة «العمال الكردستاني». خلاصة القول: من يريد التعرّف إلى حقيقة هذه التجربة أو الظاهرة، ينبغي عليه الانضمام إليها في شكل كامل أولاً، والتغلغل فيها ومعايشة التجربة، ثم ينتقدها، ويوجّه إليها النذر اليسير من النقد. وقتذاك، سيدرك هذا الشخص مدى احترام «العمال الكردستاني» للديموقراطيّة التي يزايد بها حتى على التجارب الغربيّة أيضاً. * كاتب كردي سوري