عادت إيران خلال الأسابيع الأخيرة فاحتلت مكاناً متقدماً في السياسة الدولية واهتمامات الإعلام العالمي. وعادة لا تحدث هذه الأمور بطريق المصادفة ولا المفاجأة. فاللقاءات والزيارات تحتاج الى وقت وإعداد طويلين. والأوامر والتعليمات الصادرة لتغيير لهجة الخطاب السياسي تمر بشرائح سلطة وإدارة متعددة قبل أن تصل إلى كاتب الخطب ومعد التصريحات. وإذا حدث التطور في ظروف توتر زادت الحاجة بالتأكيد إلى مشاورات داخلية وخارجية أعمق، أي إلى وقت أطول. لذلك أتصور أن الدفء الذي لاحظناه عن بُعد في العلاقات الإيرانية الغربية، وبخاصة العلاقات الإيرانية - الأميركية، وشعر به عن قرب من كان خلال الأسابيع الأخيرة في نيويورك وواشنطن ولندن وطهران وأنقرة والرياض وكابول وإسلام أباد، هذا الدفء ليس وليد اللحظة. وقد يحتاج التحليل الهادئ الى حرص أشد في اختيار كلمات وعبارات أدق. ولذلك قد تكون في استخدام كلمة الدفء مبالغة بسيطة غير مستحبة. ولو استخدمنا بدلاً منها عبارة بدء ذوبان الجليد، أو الاستنشاط للتغلب على البرودة، لكان أفضل. على كل حال، وأياً كانت العبارة التي نختارها لوصف حالة انتقال من وضع علاقات شديدة البرودة والتوتر الى وضع علاقات أقل برودة وأقل توتراً، فإننا من دون شك أمام مؤشرات جديدة تدل على أن الغرب وإيران قررا الدخول في علاقة مختلفة عن العلاقة التي قامت بينهما على مدى عشرين عاماً. وتدل كذلك على أن الطرفين توصلا في وقت واحد تقريباً الى أنهما في حاجة الى هذه العلاقة المختلفة، وأنه لو تأخر الانتقال الى هذه العلاقة المختلفة تأخر تحقيق، وربما تضررت، مصالح مهمة لكل من الغرب من جهة وإيران من جهة أخرى. نعود الى نقطة البداية، أي إلى حيث المؤشرات، فالمؤشرات نوعان. نوع يشير بالتأكيد الى نية الطرفين في تخفيف حدة التوتر والبرودة في العلاقات. فكانت مثلاً اللقاءات المتنوعة التي جرت في نيويورك وقبلها الزيارات، وآخرها الزيارة الاستطلاعية الايطالية والزيارات الاقتصادية وهي لم تتوقف في الآونة الأخيرة. ولكن كان هناك أيضاً ما هو أهم من حيث المغزى. فقد اجتمع الغرب على موقف كلامي يكاد يكون مناهضاً لموقف طالبان وأن لم يؤيد تماماً تهديدات إيران. وكان منطقياً أن تصب هذه الأعمال في النهر الإيراني المتدفق بإعلانات النيات الطيبة والاعتدال السياسي. ولذلك حظي الموقف الجديد دولياً - والقديم حسب الخطاب الإيراني الداخلي - في موضوع سلمان رشدي بترحيب غربي كانت المبالغة فيه واضحة الى حد مثير للانتباه. فقد أعطى الانطباع - وأظن أن هذا كان الهدف - بأن الموقف الجديد يكاد يكون في حكم الانقلاب على الموقف القديم، بل إنه إلغاء فعلي لفتوى الخميني. هنا بدا الغرب، سياسة وإعلاماً، حريصاً على "تحسين" صورة إيران لدى الرأي العام الغربي. وهي الصورة التي بذل الغرب مدة طويلة وجهداً هائلاً لتبدو سيئة ومشوّهة، بل لتصبح إيران نموذجاً لكل ما يجب أن يكرهه الإنسان الغربي. وإن بدت أميركا أنها تقوم بدور المتحفظ - أو قل الرزين - في عملية التقارب الإيراني - الغربي، إلا أنها كإدارة ووزارة خارجية ومصالح اقتصادية، تحاول بخطواتها الهادئة عدم إثارة الكونغرس والجانب اليميني المسيحي المتصلب، ولكن المتزايدة قوة، في السياسة الداخلية الاميركية. ولذلك تظهر أوروبا الغربية كما لو كانت الأكثر حماسة، وأظن أن الحماسة في جانب منها محاولة أوروبية للضغط على الكونغرس الاميركي للتخفيف من عدائه لإيران. في الوقت نفسه لم تأخذ الولاياتالمتحدة، ولا إيران، القرارات الحاسمة التي يمكن أن تؤدي فعلاً الى إذابة الثلوج ثم بث الدفء في العلاقة الإيرانية - الاميركية. إذ ظلت الولاياتالمتحدة - رغم انتقاداتها العلنية النصير الأول لحركة طالبان والمزوّد الأساسي لها بالسلاح والمعلومات عن القوات المسلحة الإيرانية. كذلك لم تقدم الولاياتالمتحدة أي مؤشر يستدل منه على قرب الموافقة على أن يمتد خط أنابيب القوقاز عبر إيران. ولم تبد أي بادرة تدل على النية في إعادة النظر في العقوبات الاقتصادية المفروضة على الدول المتعاملة مع إيران ذاتها. ولم يحدث، ولا أظن أنه سيحدث في الأجل المنظور، أن تتوقف الولاياتالمتحدة عن استخدام "الخطر" الإيراني لتحكم هيمنتها في المنطقة الممتدة بين شمال افريقيا وشرق البحر المتوسط غرباً وسهول السند والبنغال والمحيط الهندي جنوباً ومناطق ما وراء النهرين شمالاً. وعلى الجانب الآخر لم تُقْدم إيران على اتخاذ خطوات واسعة أو حاسمة في اتجاه التقارب. لم تعلن إيران أنها قررت التخلي عن حملاتها ومواقفها في مسألة القدسوجنوبلبنان ومناهضة التوسع والعدوانية الإسرائيلية. ولم تعلن أنها قبلت بالوجود العسكري الاميركي، أو أنها لن تتوقف عن مناهضته. ولم تقرر أنها مستعدة للاشتراك الفعلي في تنفيذ عمليات جماعية لإسقاط حكومة العراق. ولم تتعهد بالتخلي عن خطط تطوير ترسانة الأسلحة الصاروخية والتكنولوجية. ولكن لاحظ في الوقت نفسه أن إيران لم تعد تستعمل الصياغات نفسها التي كانت تستعملها في خطابها المتضمن أي قضية من هذه القضايا قبل بدء التجربة الراهنة في "استطلاع أفق التقارب" مع اميركا خصوصاً والغرب عموماً. تبدو إيران في هذه التجربة حريصة، وشديدة الحذر، في اختيار العبارات والكلمات. لم تقرر بعد أن مرحلة انتهت ومرحلة بدأت. إنما تريد أن تنتقل - إن صح التعبير - بين مرحلتين أو سياستين حتى تأتي لحظة الانتقال من مرحلة الى مرحلة عن طريق التطور وليس عن طريق الانقلاب. لاحظ مثلاً كيف كان الانتقال في قضية سلمان رشدي، لم تتنكر للفتوى أو للمرشد، ولكنها نأت بنفسها عنها كحكومة. لاحظ كيف يصاغ الآن الموقف من إسرائيل في جنوبلبنان. لاحظ الصياغات الجديدة في معظم المواقف. ولكن توقف كثيراً عند الصياغة الجديدة للموقف الإيراني من قضية الأمن الاقليمي، أي أمن منطقة الخليج. في كل الأحوال، لا يجوز النظر الى تطور العلاقات الإيرانية - الغربية في المرحلة الراهنة عبر عدسات ايديولوجية. لا يعني هذا أن لا حساب للإيديولوجية عند محاولة فهم هذه العلاقات، ولكنه يعني أن التحركات التي تجري حالياً، لا يجمعها بالضرورة رابط ايديولوجي. وعلى كل حال الايديولوجية موجودة في حلفية صانعي القرار هنا وهناك، ولكنها في هذه الأيام، وفي هذه التفاصيل، لا تهيمن ولا تتحكم. إنما القضايا والحاجات هي التي تتصدر وتوجه، وقد تقرر. لا أحد يستطيع أن يقلّل من حاجة الطرفين، الغربي والإيراني، الى تبادل وتعظيم المنافع الاقتصادية وتعويض جزء مما فقد وضاع. ليست خافية الضغوط التي تمارسها الشركات الاميركية وليست خافية عودة المنافسة بين الشركات الاميركية والبريطانية. وكلها تذكرنا بسابق عهدها في اوائل عقد الاربعينات من هذا القرن، عندما كان مندوبو الشركات الاميركية يتسللون خفية لمقابلة المسؤولين الايرانيين حتى لا يعرف البريطانيون، الحكام الحقيقيون في ذلك الوقت. في الوقت نفسه ليس خافياً حاجة الاقتصاد الايراني، وهي حاجة ماسة، الى تدفقات استثمارية هائلة لبناء أو إعادة بناء الهياكل التحتية للدولة. كذلك لا أحد يقلل من حيوية ومحورية الدور الإيراني في معظم الجدل الدائر حول صدام أو حرب الحضارات. سهل أن نعلن أن لا صداماً ولا حرباً ثقافية واقعة، وإن ما يخيم على البشرية جمعاء ليس أكثر من أجواء صراعات مصالح وصراعات قوة. أو كما يتردد بسذاجة غريبة من أن العالم يشهد سلاماً ونيات سلام لم يشهد مثيلاً لها طوال القرن. والواقع يقول شيئاً آخر يجب أن نواجهه بأن نبشر بتآخي وتلاقح الحضارات وليس بأن ننكر وجودها. في هذا الإطار إيران لاعب مهم، سواء بالرمز أو بالفعل. لا أحد يطمع في نفط وأنابيب بحر قزوين يستطيع أن يهمل أو ينسى وجود إيران. ولذلك أثارت إيران وبشدة موضوع الأنبوب المزمع بناؤه ليتوجه جنوباً نحو المياه الدافئة. تريده يمر بها وأميركا تريد الضغط به وبطالبان وباكستان لتحصل على تنازلات إيرانية في مجالات أخرى هي أهم بالنسبة لها، مثل الموقف الايراني من إسرائيل ومثل الموقف الإيراني من حرب جديدة ضد العراق، سواء كان هدفها التقسيم أو إسقاط النظام، ومثل اصرار إيران على تطوير نظم تسلحها لتتناسب قوتها مع التطورات الخطيرة في جنوب آسيا والتهديدات المستمرة من جانب إسرائيل ومع الزيادة المفاجئة في قوة كل من تركيا وإسرائيل نتيجة الحلف الذي قام بينهما. لذلك كله أتوقع لهذه المنطقة، وللإقليم بأسره، تصعيداً في كل المواقف تمهيداً لتقارب لا بد منه في بعض المواقف. * كاتب مصري.