تُعتبر أوقاف الحرمين الشريفين من أهم وأكثر الأوقاف انتشاراً في العالم الإسلامي، من المغرب إلى اندونيسيا ومن البوسنة إلى اليمن، وهي من الأوقاف التي تُبرز عالمية الوقف ودوره في التعبير عن مشاعر المسلمين في كل مكان نحو الحرمين الشريفين ومن يجاورهما من سكان وما تحتاج إليه المنشآت الموجودة هناك للإنفاق على المجاورين والمحتاجين. وازداد اهتمام السلاطين العثمانيين بالحرمين الشريفين كمظهر لتأكيد سيادة العثمانيين في العالم الإسلامي، وخصوصاً في مواجهة الصفويين آنذاك. ويبدو هذا الاهتمام والإنفاق على الحرمين الشريفين في شكل خاص في عهد سليمان القانوني 925-974ه/ 1520-1566م، الذي بنى هو وزوجته السلطانة خُرّم شاه (روكسلانة) بعض المنشآت الجديدة ضمن أوقافهما الكثيرة التي امتدت في أرجاء الدولة العثمانية التي اهتم بها ابنهما السلطان سليم الثاني، وهو ما خصّص له الباحث المعروف في الوثائق العثمانية فاضل بيات المجلد الرابع من «البلاد العربية في الوثائق العثمانية- الحرمان الشريفان في عهد السلطان سليم الثاني»، الذي صدر أخيراً عن مركز الأبحاث في التاريخ والثقافة الإسلامية في إسطنبول (أرسيكا)، الذي يعتمد فيه على «دفاتر المهمة». وكان بيات أصبح اسماً معروفاً خلال العقدين الأخيرين بالكشف عن أهم مصادر التاريخ العثماني، ألا وهي دفاتر المهمة، التي أصدر منها ثمانية مجلدات تتعلق ببلاد الشام في شكل خاص (3 مجلدات) والبلاد العربية في شكل عام (4 مجلدات). أما أهمية هذا المصدر (دفاتر المهمة) فتكمن في كونها تمثل أحكاماً يصدرها السلطان بعد ورود شكايات أو تظلّمات إلى الديوان السلطاني، الذي كان يعقد كل يوم تقريباً حتى عهد السلطان محمد الفاتح الذي تخلّى عن هذه المهمة للصدر الأعظم، حيث كانت تُعرض هناك وتنتهي بصدور حكم يقضي بإجراء تحقيق أو تغيير في منصب شخص ثبت فساده الخ . ومن هنا تبدو دفاتر المهمة مصدراً مهماً لفهم النظام العثماني وللتعرّف الى الوضع العثماني كما هو على أرض الواقع، وليس كما يُفترض أن يكون. وإذا طبّقنا ذلك على الأوقاف يمكن القول إن دفاتر المهمة تكشف عن واقع الأوقاف (التقصير والفساد في إدارتها الخ) وليس كما يجب أن تكون وفق الواقف الذي أنشأها أو وفق الوثائق (الوقفيات) المؤسّسة لها والتي تحدد مصادر دخلها وأوجه الإنفاق عليها. ولدينا أقدم دفترين من دفاتر المهمة (الأول عن فترة 1544-1545م، والثاني عن فترة 1552م) في أرشيف متحف «طوب قابي». في حين أن لدينا 267 دفتراً في الأرشيف التابع لرئاسة الوزراء، وهي تغطي الفترة مابين 1553-1905م. وفي الواقع، تعتبر هذه الدفاتر كنزاً للباحثين لأنها تغطي الجوانب الإدارية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية للولايات العثمانية، لكن الاستفادة منها كانت محدودة جداً من قبل الباحثين العرب بحكم الحاجز اللغوي أو تقاعس الباحثين العرب عن تعلم العثمانية والولوج بها إلى هذا الكنز. وفي هذا السياق لا تختلف أوقاف الحرمين الشريفين عن غيرها من الأوقاف مثل المدارس والتكايا وغيرها الموجودة في أرجاء الدولة العثمانية، أي أن قدسية الحرمين الشريفين لم تكن تحول دون وجود تجاوزات عليها أو اغتصابات لمواردها الخ. ومن الطبيعي هنا أن تطاول هذه التجاوزات أو الاختلاسات الأوقاف المملوكية السابقة أكثر من الأوقاف العثمانية المستحدثة. ففي 982 ه/ 1574 م ورد إلى الديوان السلطاني أن ثلاثة غرف عند أحد أبواب المسجد الحرام (باب أم هاني) تابعة لوقف السلطان المملوكي قايتباي خربت لعدم وجود موارد كافية، ولذلك يقترح قاضي مكةالمكرمة هدمها(لخشية تعرض المدنيين للضرر) أو تعميرها، بينما جاء الحكم السلطاني الموجه يسمح بالهدم أو تعميرها «وفق الشرع القويم». ومن ناحية أخرى تكشف دفاتر المهمة عن سابقة لا مثيل لها. فقد أمر السلطان سليمان القانوني ببناء أربع مدارس للمذاهب الأربعة في مكةالمكرمة ضمن وقفه الكبير، ولكن بعد أن بوشر بالبناء تبيّن أن المكان يضم ثلاث مدارس وبيمارستان (دار شفاء) من العهد المملوكي، ولذلك جاء الحكم السلطاني في 975ه/1568م إلى أمير جدة بالتحقيق في الأمر وإبلاغ السلطان في ما يتخذه (إجراء استبدال ليكون وقف السلطان شرعياً). وفي ما يتعلق أيضاً بالأوقاف المملوكية تبين في 975ه/1568م أن نظّار أوقاف السلطان قايتباي والسلطان جقمق والسلطان قانصوه الغوري في مكة «قاموا بأكل مواردها وتعريضها إلى الخراب» ومنهم المدعو حياتي الذي اختلس من مواردها ألف قطعة ذهبية كما أن القاضي حسين اختلس 500-600 قطعة ذهبية، ولذلك صدر الحكم السلطاني لوالي مصر بتعيين «أحد الأكفياء النزيهين» ومطالبة قاضي مكةالمكرمة بمتابعة الأمر. ولكن هذه التجاوزات والاختلاسات لم تكن تشمل الأوقاف المملوكية القديمة بل الأوقاف العثمانية التي أنشئت لتوها. فقد كانت زوجة السلطان سليمان القانوني ووالدة السلطان سليم الثاني خُرّم شاه بنت ضمن وقفها في مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة «عمارة عامرة» أو «دار طعام» تقدم الوجبات المجانية، ولكن سرعان ما تبيّن أن هذه الوجبات لا تصرف لمستحقيها، ولذلك جاء الحكم السلطاني في 980ه/1573م إلى قاضي المدينةالمنورة وشيخ الحرم بالتقيد بما ورد في الوقفية الخاصة بالعمارة المذكورة. وضمن هذه الوقف الكبير لخُرّم شاه كان هناك «وقف الدشيشة» التي كانت ترسل من مصر إلى فقراء الحرمين الشريفين، ولكن تبيّن وجود اختلاس كبير على يد الناظر على الوقف (مصطفى بك) ما ترتّب على ذمته عشرة آلاف قطعة ذهبية وثلاثة آلاف أردب من الغلال، ولذلك جاء الحكم السلطاني في 975ه/1568م إلى والي مصر للتحقيق في ذلك وتعيين شخص آخر للنظارة إذا ثبت ذلك الاختلاس. وفي ما يتعلق ب «وقف الدشيشة» تكشف دفاتر المهمة في 980ه/1573م عن تلاعب بالغلال التي كانت ترسل من مصر إلى المحتاجين في مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة، إذ تبيّن وجود فساد في التوزيع يحرم الفقراء منها، ولذلك صدر الحكم السلطاني إلى قاضي مكةالمكرمة وقاضي المدينةالمنورة بالتحقيق في ذلك. وعلى هذا النمط من الفساد وصل إلى الديوان السلطاني ما يفيد بأن الأوقاف المخصصة للفقراء في مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة لاتوزع على مستحقيها بل يتم منح أكثرها إلى الأغنياء، «الأمر الذي يسبب معاناة الفقراء»، ولذلك يطلب الحكم السلطاني الصادر في 981ه/1574 م من قاضي مكةالمكرمة «أن يُمنع إعطاء المستحقات إلى الأغنياء عند وجود الفقراء». ومن ناحية أخرى تكشف دفاتر المهمة عن نوع آخر من التجاوزات على المدارس الموقوفة في مكةالمكرمة. فقد شكا شريف مكة من أن بعض أمراء الحج الذين يفدون إلى مكة ينزلون في هذه المدارس، التي توفر الإقامة والوجبات، ولذلك يطالب الحكم السلطاني الصادر في 978ه/1570م شريف مكة بمنع ذلك لأنه «ليس من الجائز مطلقاً نزول أي شخص من الخارج والسكن فيها». وأخيراً إن هذا غيض من فيض الأحكام السلطانية الواردة في دفاتر المهمة التي تتعلق بأوقاف الحرمين الشريفين وغيرها، وهو ما يؤكد أهمية هذه الدفاتر في التعرف الى واقع الحال للأوقاف خلال الحكم العثماني وإلى واقع الحال في شكل عام في الدولة العثمانية من النواحي الإدارية والاقتصادية والاجتماعية. فدفاتر المهمة تكشف عما تكشفه لأنها ببساطة ترتبط بمؤسسة الديوان الهمايوني الذي كان يتلقى الشكاوى والتظلّمات المتعلقة بالفساد من الولايات، ويصدر الأحكام السلطانية التي تفيد بالوقائع وتطالب بالتحقيق أو يصدر الأوامر بالعزل للمسؤولين عن الفساد واسترداد ما اغتصبوه من الأوقاف.