رغم الامكانات المحدودة للسياسة الفرنسية، لا يمكن تجاهل انها تتضمن في أحيان كثيرة مواقف قريبة الى ان تكون أخلاقية، يفترض في الادارة الأميركية ان تتأثر بها، وإن لم يكن في استطاعتها الاعتراف بأنها تعكس فهماً لتعقيدات الشرق الأوسط، بدءاً بما يدور في شمال أفريقيا وانتهاء بالوضع العراقي مروراً بما يسمى قضية الشرق الأوسط. استطاعت فرنسا ان تفهم ان مشكلة الجزائر لا تحل من خارج وأن المناداة بلجان تحقيق دولية أقرب الى عملية هروب الى أمام في غياب القدرة على ارسال ما لا يقل عن 500 ألف جندي أجنبي الى البلد لاحلال السلام فيه. وهذا السيناريو أقرب الى الخيال من أي شيء آخر. واستطاعت فرنسا على خلاف الولاياتالمتحدة ان تفهم الوضع الليبي وأن تتوصل الى صيغة تفاهم لحل المشاكل العالقة مع هذا البلد بدل ابقاء شعب تحت الحصار لأسباب ليس معروفاً هل هي حقيقية ام لا. وقد اختار الرئيس كلينتون بداية السنة ليجدد العقوبات الأميركية على ليبيا، وهي عقوبات فرضت عام 1986 واستندت الى أسس واهية، بدليل انه لم يصدر أي حكم، في أي قضية، يتضمن ادانة لليبيا. ومع ذلك تستمر العقوبات على ليبيا لا لشيء سوى لمنع دول المنطقة وابنائها من الاستفادة من مواردها خصوصاً مصر والسودان والجزائر. وبدل ان يساعد التفاهم مع ليبيا في محاربة التطرف في هذه البلدان الثلاثة، إذا بالعقوبات تحبط أي دور ايجابي لهذا البلد، الذي عرف كيف يتعاطى مع متطرفيه، إن على صعيد التأثير ايجاباً على السودان في اتجاه جعل نظامه أكثر اعتدالاً، وهو قادر على ذلك، او على صعيد توفير متنفس للاقتصادين الجزائري والمصري في مرحلة يواجه فيها البلدان مجموعات متطرفة تستفيد أولاً من تردي الأوضاع الاقتصادية في البلدين. عرفت فرنسا كيف تتعاطى مع ليبيا لأنها تعرف ان الاستقرار على الضفة الأوروبية للمتوسط مرتبط الى حد كبير بالاستقرار على ضفافه الأخرى، خصوصاً في منطقة شمال افريقيا. وعندما تتخذ فرنسا موقفاً مختلفاً من العراق محاولة انقاذ الشعب فيه من الظلم الذي يتعرض له، والذي في أساسه النظام وممارساته، فإنها تخدم ايضاً الاستقرار في المنطقة الذي هو في الوقت نفسه أحد أهداف أميركا التي لم تعد تدرك ان استمرار الضغط على الشعب العراقي سيؤدي الى عواقب وخيمة من نوع هجرة اكراد شمال العراق الى أوروبا والمشاكل الناجمة عن ذلك والتي لم تعد خافية على أحد. أخيراً استقبلت فرنسا نائب الرئيس السوري السيد عبدالحليم خدام ووزير الخارجية السيد فاروق الشرع، قبل توجه وزير خارجيتها هوبير فيدرين الى تركيا التي يزور بعدها سورية. فإذا كانت فرنسا تتحرك بين دمشق وأنقرة، لا شك ان ذلك يساهم في حل احدى العقد الأساسية في المنطقة اضافة الى ان ابداء باريس استعدادها للمشاركة في الترتيبات الأمنية بين سورية واسرائيل لا يمكن إلا ان يثير ارتياحاً سورياً مع ما يعنيه ذلك من انعكاسات طيبة على لبنان. ما دامت أميركا تتحرك في الشرق الأوسط تحت سقف الاستقرار، فإن الاستعانة بالمواقف الفرنسية لا يمكن إلا ان يساعدها في مهمتها انطلاقاً من ان فهم الشرق المعقد لا يحتاج في معظم الأحيان سوى الى أفكار بسيطة.