الى عبدالعزيز المقالح أمتعتني قراءةُ كتابك، وخلالها شعرتُ بأنّ صداقتنا هي أعمق مما نظنّ - نحن الاثنين -، وبأنّ ما يجمعنا من حدوسٍ وتطلعات هو أكثر مما نتوقع - نحن الاثنين -. وقعتُ في كتابك قراءة في فكر الزيدية والمعتزلة على الكثير مما لم أكن أعرفه، خصوصاً اني لستُ متضلِّعاً بما أثَرْتَهُ فيه من موضوعات. ولكنّ الذي أثّر فيَّ - أكثر من غيره - هو الروح التي حرّكتك الى تأليفه. ألا انها روح التعالي على كل مذهبيةٍ أو تمذهب. إنها روح الانفتاح والإيمان بقدرة العقل. روح الدعوة الى الحوار والتخلي عن الاعتصام بالأفكار الجامدة مهما كان لها في الماضي من شأن. لستُ هنا لأُعلّق على ما جاء في كتابك، ولا على طريقتك النيّرة في عرض محتوياته، التي بدا لي أنّك اعددتها في فتراتٍ منفصلة او متباعدة، ولكني أردتُ - في ما اكتبه هنا - ان أعبّر لك عما اوضحه لديّ كتابك من هواجس وتساؤلات كانت ولا زالت تؤرقني، بل تبعث لديّ الكثير من السخط والألم. كيف نتوجه الى المستقبل؟ وماذا تنفعنا المذاهب على أنواعها؟ من الطريف، أو قُلْ من الغريب، أنّ الصراع المذهبي في مجتمعاتنا وليكن الكلام هنا مقتصراً على الصراع بين المذاهب الاسلامية لا يزال قائماً بحدة، ويدور على مسائل او نقاط خلافٍ مضت على نشوبها قرونٌ كثيرة، ولم يبق للوقوف عندها بحماسة وتشنّج فائدة كبيرة، او بالاحرى فائدةٌ تُذكر. ما زال هذا الصراع قائماً، وهو إن هدأ فإنه يكون كامناً لا خامداً. أليس في ذلك مظهر فاضح من مظاهر التخلّف، وقصورٌ عن الحضور فعلياً في الحاضر؟ لا أقول إنّ علينا تجاهل الماضي، بل أقول إنّ علينا معرفته معرفةً عميقة، بكل ما ضجّ به من مشاكل ونزاعات، أو لمع فيه من لحظات مشرقة. الا انني أرغب - كما رغبتَ أنت - في ان تكون محاولتنا لتحصيل هذه المعرفة نزوعاً الى الخروج من ذلك الماضي، نزوعاً الى التعالي عما أورَثَنا إياه من خلافاتٍ مذهبية او غير مذهبية. أرغب - كما ترغب أنت - في ان تكون هذه المحاولة بحثاً عن سلاح معرفيّ يساعدنا على الدخول في الحاضر والتطلع الى المستقبل برؤى جديدة، وبروح من الترفع عن ترسّبات الماضي السلبية في تفكيرنا وفي سلوكنا. ما نحتاجه هو اكثر بكثير من تبيان نقاط التقارب بين هذا المذهب او ذاك، فالكلام على التقارب المذهبي هو إقرارٌ - على نحوٍ ما - بوجود عوامل التباعد او الافتراق. نحن في حاجة الى التخلي عن كل انتماء مذهبي ضيّق، والى تكوين اتجاهات فكرية سمحة قادرة على عدم الوقوع في أيّ نوع من الانكماش او التقوقع. ولهذا علينا ان نتوجه في كلامنا على هذا المذهب او ذاك الى البحث - كما فعلت انت في كتابك - عن سُبُل التحرر من كل ما تضعه لنا المذاهب من قيود او حدود. تُرى، كيف يمكننا التخلص من التمذهب الذي يُلقي بغياهبه على مجتمعاتنا، ويكاد يخنقها؟ أشعر دائماً بأنّ الكثيرين من امثالنا هم ضحايا التصنيفات الطائفية او المذهبية التي تسود مجتمعاتنا. وكنت قد حدّثتك، ايها الصديق، عن مثل ذلك في لبنان، هذا البلد الذي يتميز عن غيره من البلدان العربية بمزيد من التعقيد في تركيبته الاجتماعية او السكانية. لكَمْ يجد الواحد منا نفسه محكوماً بنوع من الانتماء الضىق، لم يخترْه وليس يرتضي به. وهذا الانتماء ليس دائماً طائفياً او مذهبياً، وإنما قد يكون سياسياً مثلاً او فكرياً. الطريف انه احياناً يُفرض عليك فرضاً. ماذا نفعل بتلك التصنىفات التي لا نستطيع النجاة منها؟ تُحاول في حياتك العملية ان تترفّع - ما استطعتَ - عن الانتماءات القسرية، وأن تُبديَ أقصى القبول او التفهم تجاه الآخرين من شتى الانتماءات، فتجد ان الاعراف والممارسات والسياسات والمصالح وحتى القوانين تردّك الى ما حاولت الترفّع عنه، وتصفُك بما لا تصفُ نفسك به. هل ترى ايها الصديق انه يمكننا التقدم او التطور، ونحن غارقون في مثل تلك التصنيفات او الانتماءات الضيقة، وأخطرها المذهبية؟ وماذا نفعل نحن، ضحايا ما نرفضه من هذا كله؟ لا يسعني هنا ان أتلمّس حلولاً، أو أُحدِّد مسؤولياتٍ. ولا أُحسن الكلام على دور السلطة على انواعها في الإبقاء على ما نحن فيه. كما لا أُحسِنُ الكلام عما بين السلطات والمذاهب والافكار من علاقاتٍ او تشابكات. وأنتَ أقدرُ مني على مثل هذا، وقد عبّرتَ عن شيءٍ منه في كتابك. ما رميْتُ اليه هو التعبير عن مشاعري فقط. وهي - كما رأيتَ - مشاعرُ سخطٍ يكادُ يودي بي إلى اليأس. ألا ترى إذن أنني فرحتُ بكتابك؟ فقد دفعني الى التعبير، وكشف لي عمق صداقتنا، وكثرة ما يجمعنا من حدوسٍ وتطلعات.