اوشك، وانا اكتب هذه السطور من كلكتا، على انهاء اول زيارة اقوم بها الى الهند، هذا البلد الذي شعرت نحوه دائماً بانجذاب كبير وكنت اطمح دائماً الى التعرف عليه. واذكر اني درست عن الهند عندما كنت صبياً في مدارس بريطانية في فلسطين ومصر، وقرأت روايات كيبلينغ وقصص ادموند بورك واللورد ماكولي عنها، وادركت ان مكانتها بالنسبة الى الانكليز اشبه بالجوهرة في التاج، او حجر الزاوية في صرح الامبراطورية. وكان العالم العربي، حسب ما تعلّمت، مهماً بالنسبة الى الامبراطورية لأنه كان يمثل الطريق الى الهند، ما استوجب حمايته والدفاع عنه مهما كلف الامر. ومكث البريطانيون في الهند 400 سنة: جنوا ثروات هائلة وامدوا جيوشهم بألوف الرجال من هذا البلد، وانشأوا نظاماً من المؤسسات والشبكات التعليمية والبيروقراطية والقانونية والعسكرية والدينية التي كانت تخضع الى سيطرتهم عبر سلطات حاكمة واجراءات اتسمت بالوحشية في احيان كثيرة وكانت تنبع من جبروتهم. وفي النهاية رحلوا، بعدما توصلوا الى ان نزوع الهند الى الاستقلال قوة هائلة لا يمكن مقاومتها. وفي ذروة عظمتها فرضت بريطانيا العظمى سطوتها على 350 مليون هندي باستخدام قوات لم يكن تعدادها يزيد على مئة الف رجل. وعلى رغم حجمها الهائل، والتنوع العجيب في لغاتها وتقاليدها، وجمالها ومعالمها الملهمة، فإن الهند تبدو بالنسبة إلي بلداً اقل غرابة بالمقارنة، مثلاً، مع السويد او ايطاليا. ولعب الاسلام دوراً بالغ الاهمية في شبه القارة الهندية، وهو ما يتجلى للزائر على نحو مثير للاعجاب في العمارة الاسلامية الرائعة وبهائها الخارق. على سبيل المثال، يجمع "تاج محل" بين ما هو فريد تماماً ومألوف في الوقت نفسه، فجدرانه السماوية وتصاميمه المتناسقة الجميلة التي تسمو على ارتفاع شاهق تحاكي مساجد في الاندلس ومصر وسورية. فالهند، في أي حال، جزء من الشرق ذاته الذي تخيله فلوبير وبرتون ودزرائيلي، ونحن العرب الى حد ما شرقيون من الصنف ذاته، اذ خضعنا للاستعمار واُعتبرنا ادنى مرتبة، ونكافح الآن من اجل استقلال حقيقي، ويحبنا البعض ويبدي اعجابه بنا لماضينا "الكلاسيكي"، فيما يعاملنا آخرون بازدراء لتخلفنا وقصورنا على صعيد التكنولوجيا، ونعاني الاستغلال من جانب الشركات متعددة الجنسية والنخب المحلية الجشعة على السواء. لكن يمكن العرب ان يحسّوا في الهند بألفة يتعذر التمتع بها في اوروبا. وهناك، بالطبع، الوجود الاسلامي القوي يزيد عدد المسلمين في الهندوباكستان وبنغلادش على عددهم في العالم العربي كله. لكن هناك ايضاً الدفء والحس بالتراث، ونمط الحياة المتحرر من الاجهاد بشكل عام الذي يميز الكثير من العالم غير الغربي. كما نتقاسم المشاكل ذاتها التي تتمثل بالفقر والجهل والمرض، ولو ان الهند، بخلاف العالم العربي، تملك طبقة وسطى مهمة، وفئة حيوية من الاكاديميين والمثقفين، وقطاعاً بالغ التطور في الصناعة الالكترونية، وديموقراطية حقيقية. لكن ربما كان وجه الشبه الاكثر وضوحاً هو ان كلانا عانى الاثار المدمرة للتقسيم على ايدي القوى المستعمرة. وصادفت السنة 1997 الذكرى الخمسين لاستقلال الهند، وهي ايضاً الذكرى الخمسون لتقسيم البلاد الى باكستان الاسلامية والهند التي يشكل الهندوس غالبية سكانها البالغ عددهم 950 مليون نسمة ومن ضمنهم 125 مليون مسلم وملايين عدة من السيخ، بالاضافة الى اقليات اخرى كثيرة اصغر حجماً من ضمنها المسيحيون في جنوبالهند. كما كانت 1947 السنة التي صدر فيها قرار الاممالمتحدة الخاص بتقسيم فلسطين، ونتائج النزاع بين الحركة الصهيونية والعالم العربي كله معروفة تماماً. لكن التقسيم الاتني والديني لم يولّد ذلك النوع من الاستقرار او الهدوء والسكينة التي كان يطمح اليها الهندوس والمسلمون، بالقدر ذاته الذي اخفق في توفير الامن والانسجام بين العرب والاسرائيليين، او حتى بين العرب انفسهم. فقد ولّد الاستقلال الطائفية والحرب الاهلية الدموية كما جرى في فلسطين ولبنان والجزائر وذلك النوع من عدم الاستقرار الذي كان يُفترض ان ينتهي مع رحيل آخر جندي مستعمر. وفي العالم العربي، تفشت نزعات الخوف من الاجانب وعدم التسامح الديني والقومي التي تجسدها اسرائيل. وواضح ان بعضها مستمد من الصهيونية ذاتها، لكن قدراً لا يستهان به نجم ايضاً عن التعصب الديني الناشىء محلياً الذي لم يجرِ الحد منه بنشوء مجتمع ديموقراطي حقيقي. وحتى في الهند، يبدو ان حزب بهاراتيا جاناتا الذي يمثل الاصولية الهندوسية ويسعى الى تحويل الهند الى بلد هندوسي - وهو ما كان يلقى دائماً مقاومة شديدة من جانب غاندي ونهرو - اصبح الحزب الاقوى بعد حل البرلمان اخيراً. وبسبب الفساد والانتهاكات المعتادة من جانب البيروقراطية تشبه كثيراً الطريقة التي بُدّدت بها سلطة جبهة التحرير الوطني في الجزائر تحلّل النفوذ التاريخي للمؤتمر الوطني الهندي لدرجة ان اقدم احزاب البلاد الذي انتزع استقلالها من بريطانيا يعيش الآن حال انهيار دائم بعد سنين طويلة من حكم عائلتي جواهر لال نهرو وانديرا غاندي. وتستمر ازمة الحكومة فيما يقترب موعد الانتخابات. ويلف البلاد سياسياً احساس ينذر بالشر. هكذا، تقدم الهند منظوراً موثوقاً، ونموذجاً موازياً ضخماً، لنصف القرن الذي انقضى منذ إقامة اسرائيل بالقوة وتشريد الفلسطينيين وعسكرة العالم العربي واستنزافه عبر سنين من الحرب، وتعطيل الحقوق الديموقراطية، وتطور التطرف الديني الى قوة ذات شأن. ولا شك لدي بأننا اسوأ حالاً من الهند او باكستان التي تشبه البلدان العربية اكثر لأن الجيش هناك، بخلاف الهند، لعب دوراً سياسياً كبيراً. وكما قلت في احد مقالاتي الاخيرة، فإن "حل" اسرائيل للمشكلة اليهودية الممعنة في القدم ادى الى جدل طائفي داخل البلاد حول مسألة "من هو اليهودي؟" فيما تنتقل من ازمة الى اخرى في ظل حكم بنيامين نتانياهو. كان الجيل الاول من الزعماء العرب والهنود، وحتى الاسرائيليين، بعد الاستقلال متشابهين في كونهم جميعاً - عبدالناصر، نهرو، بن غوريون - مهما كنا نختلف معهم في الوقت الحاضر، يتصفون بجاذبية جماهيرية ويتمسكون بموقف قومي وعلماني بعض الشيء كان يمتاز، باستثناء اسرائيل، بشموليته واخلاقيته ويشي بحس قوي بالعدالة. ونعيش في الوقت الحاضر ضمن افاق اضيق كثيراً، حيث تسود نزعات قومية ذات طابع محلي وطائفي ولكن في الاساس ديني او محافظ على الاقل، ولا يرجع ذلك الى ما تبديه من روح تسامح او قيادة مخلصة بل الى استغلال مشاعر القلق والاحساس بانعدام الامان الذي يستبد بشعوب تشعر انها ضلّت طريقها فيما تقترب من الالفية الجديدة. واذا جُرّدت اسرائيل من الاحساس بأن مواطنيها يمثلون اقلية محاصرة تواجه عدواً "عربياً - مسلماً" مخيفاً، فإن المسألة المتعلقة بما تعنيه فعلاً الهوية الاسرائيلية تدور حول جدل تلمودي يشرف عليه رجال دين رجعيون ومتعصبون خطرون يعتبرون العرب غرباء في "بلادهم"، او ما يسمى بأرض اسرائيل. ويتكرر كثيراً هذا النوع من المشاعر، الذي تكمن جذوره في استقطاب يضع الذات في مواجهة الاخر، في انحاء العالم العربي حيث الديموقراطية والمجتمع المدني معطلان عملياً على المدى المنظور. وتقوم اسرائيل منذ ابرمت اتفاقها العسكري الجديد مع تركيا باستعراض خياراتها النووية في تهديدات موجهة الى ايران. ومع زيادة الضغوط الاميركية على العراق تعطي هذه التهديدات مؤشراً الى ما سيحمله لنا عصر جديد من الارهاب النووي. ولا توجد حالياً اي دلائل مباشرة على ان الفلسطينيين سيمارسون فعلاً حق تقرير المصير: 30 سنة من المقاومة ضد اسرائيل استنزفت الحركة القومية الفلسطينية وأدت الى احتوائها في النهاية، وقادتها الان كبار في السن ومرضى، وجماهيرها مشتتة ومكتئبة، ومستقبلها عبارة عن توليفة من حكم مسؤولين امنيين وشخصيات قيادية من الدرجة الثانية. وعلى الصعيد العسكري لا تزال الدول العربية اعجز من ان تكون نداً حقيقياً لاسرائيل وحلفائها. وقد لا تعدو سورية ان تكون مسألة جانبية بالنسبة الى المتشددين الاسرائيليين، وهي بالتأكيد لا تمثل رادعاً، ولا تختلف في ذلك عن أي من القوى الاقليمية الاخرى. خسر العرب اذاً اول نصف قرن من النضال ضد التوسع والهيمنة الاسرائيلية من دون تسجيل اي مكاسب مهمة. وعلى رغم ما نمتاز به من كثافة سكانية اكبر، فإننا أفقر، ومهددون اكثر بالامية والفقر المتفشي، واقل حرية، واقل براعة في العلوم والثقافة والزراعة والصناعة. وتزداد شحة المياه والنفط والموارد الطبيعية الاخرى: من المحتمل ان تتخطانا منطقة بحر قزوين في انتاج النفط، ولم ننسق بدرجة كافية على المستوى الاقليمي في ما يتعلق بتقاسم المياه، ولا يخضع التلوث الى ضوابط ويبلغ معدلات عالية في مدن كبيرة مثل القاهرة وبيروت ودمشق واماكن اخرى. كان قيام اسرائيل نتيجة عوامل كثيرة بالطبع، وجاء بشكل اساسي نتيجة رغبة الامبرياليين في التفرقة والحكم، بالترابط مع برنامج صهيوني مصمم ايضاً على انهاء الاضطهاد المناهض للسامية. وأدت عمليات التقسيم المختلفة التي نجم عنها نشوء العديد من الدول المستقلة في الشرق الاوسط الى تجاوز، إن لم يكن تدمير، فكرة الوحدة العربية التي كانت فكرة ملهمة في المنطقة على امتداد النصف الاول من القرن العشرين، وهي الآن "حلم" يكاد لا يُذكر ويتعرض الى الكثير من القدح والذم ولا يجرأ احد على الدفاع عنه علناً. ومنذ ظهور اسرائيل الى الوجود يمكن للمرء ان يتذكر هنا فضيحة لافون في الفترة 1954-1955 لم تكتف بالسعي الى تجزئة العرب بل عملت ايضاً على عزلهم عن بقية العالم. ويبلغ هوسنا حالياً باسرائيل والغرب درجة جعلتنا ننسى افريقيا وشبه القارة الهندية والصين واليابان، بالاضافة الى بقية اسيا، على رغم ان غنى ثقافاتها وتاريخها يؤكد اهمية الاحتفاظ بعلاقة وثيقة معها كما كان للعرب في وقت مضى. لكن يجري تجاهلها الآن لاسباب تتعلق بالتحامل العنصري والشهية المتزايدة الى نزعة الغرب الاستهلاكية والاعتماد من دون تحفظ على الولاياتالمتحدة. ولن يكون لنا كشعب اي خيار حقيقي اذا لم نستعد مرة اخرى مكانتنا في العالم، كثقافة، وحضارة، وكقضية اخلاقية وسياسية. وجوهر هذا التحول يجب ان تحفزه رؤية لا تقوم على تنافس العرب وعدم اكتراثهم، بل على نوع من التعاون الاجتماعي والاقليمي الذي لا بد منه للحؤول دون مزيد من التدهور في اوضاعنا. والمكان الوحيد الذي ينبغي ان ننطلق منه بشكل ملموس هو في الداخل، لا ان نكتفي بالنواح بشكل مشتت يفتقر الى التأمل من قوة اسرائيل وغطرستها. واذا كانت الخمسين سنة الماضية علمتنا شيئاً فهو انه لا يمكن مقاومة عدو اذا كان مجتمعنا يتهاوى من الداخل. لقد ضحينا بسنين من حياتنا الوطنية لشراء اسلحة نعجز عن استخدامها كما ينبغي، وبملايين من شعبنا في حروب لم يفكروا اطلاقاً بشكل جدي في كسبها، وببلايين الدولارات في مشاريع كُرّست لخدمة سماسرة ورجال اعمال عديمي الضمير اكثر من اي شخص آخر. المطلوب: مفهوم للمواطنة العربية، فكرة تنطوي على حقوق والتزامات ومسؤوليات. وهي تقتضي، قبل كل شيء، خدمة الصالح العام، وحق كل مواطن في الاّ يتعرض الى التعذيب او السجن او القتل بشكل جائر، وحقه في الكلام والتقصي بحرية، وانتخاب ممثليه بطريقة عادلة، وان يعيش حياة تؤمن فيها حاجاته الاساسية. والعنصر الاساسي في هذا كله، حسب اعتقادي، يتمثل في نظام مناسب للضرائب. وكما قال الخبير الاقتصادي جورج قرم ذات مرة فإن العالم العربي هو الآن منطقة معفاة من الضرائب بالنسبة الى الاثرياء، ما يعني عملياً ان جني الارباح والنهب يمكن ان يتواصلان من دون اكتراث للمجتمع الذي يعيش فيه المرء، بينما توجد البرلمانات والجمعيات التشريعية للتصديق على سياسات الحكام على رغم ان الكثير منها لا يحظى بشعبية. ولا يكمن التحدي الحقيقي الذي تمثله اسرائيل، التي بزّتنا حتى الان على صعيد القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية، في انها تحتل اراضينا وتقرر الى حد ما مستقبلنا من طرف واحد فحسب، بل انها ترغمنا على التراجع أكثر فأكثر وتعمق ما نعانيه من عجز وغياب الديموقراطية وانعدام الارادة. لا ادري كيف سيحدث التحول والانعطاف في الوضع او اذا كان سيحدث اطلاقاً. لكن نهجنا الحالي هو بالتأكيد ليس النهج الصحيح، ولا يمكن لأي منا ان يتهرب من المسؤولية. نحتاج الى هدف جماعي وجهد فكري لم يسبق له مثيل كي نواجه السنوات العشر المقبلة: بخلاف ذلك، كما قال ابراهيم ابو لغد في 1991، ستنتهي الدول العربية الى مصير افريقيا في القرن التاسع عشر، فتعاني التجزئة والتفكك والفقر.