"الجنرال شتاء"، لم يجهد الحركة العسكرية ولا المساعي السياسية في افغانستان. بالعكس يبدو وكأن حرارة غير عادية دبت في اوصال الجبهات العسكرية والسياسية على السواء. ففي خلال الايام الاخيرة من العام الماضي، تقدمت قوات أحمد شاه مسعود باتجاه كابول، في وقت انهى فيه الرئيس المبعد برهان الدين رباني زيارة له لباكستان، ودعت حركة "طالبان" الى حوار بين مجموعتين من العلماء يمثلون الطرفين، واخيراً انهى نوربرت هول ممثل الاممالمتحدة مهمته في افغانستان على امل الحل. أسعد حيدر تناول هذه التطورات. نوربرت هول، الديبلوماسي الالماني الذي انهى مهمة استمرت 18 شهراً في افغانستان، ليس معروفاً بالتفاؤل، لا بل هو من الديبلوماسيين الجادين والصارمين. ومع ذلك اختار في مؤتمره الصحافي الوداعي 28/12/97 ان يقول: "ربما وصلنا الى مرحلة يُعدّ فيها الامل مشروعاً". ومجرد ان يتحول "الأمل" في افغانستان الى "أمل مشروع"، يعني ان تطورات كبيرة وعميقة قد حصلت. فافغانستان، التي تتنقل من حرب الى اخرى منذ الغزو السوفياتي لها، فقد سكانها الامل منذ سنوات خاصة بعد ان حصدت حرب الاخوة - الاعداء الاخضر واليابس في البلاد. جملة تطورات اعتمد عليها نوربرت هول لافتراض الامل، بعضها معروف وبعضها الآخر يمكن قراءته من المواقف المختلفة للاطراف الداخلية والاقليمية على جوانب ما يحصل في افغانستان. ويبدو ان نوربرت هول اعتمد أساساً على لقاءات الدول الثماني والتي تجمع الدول المجاورة لافغانستان وهي ست بينها باكستانوايران والجمهوريات الاسلامية في الاتحاد السوفياتي سابقاً، وكذلك الولاياتالمتحدة الاميركية وروسيا. وقد اجتمعت هذه الدول وتناقشت على هامش اعمال دورة الاممالمتحدة ثلاث مرات. ولا شك، ان مجرد اجتماع هذه الدول وأساساً الولاياتالمتحدةوايران على طاولة واحدة حول افغانستان، يشكل تطوراً مهماً، يكشف من جهة التطور الحاصل في العلاقات بين طهرانوواشنطن، وهو ما لم تخفه واشنطن. فقد اكد الناطق باسمها على ان "انتخاب محمد خاتمي رئيساً لايران، ساهم في قيام اتصالات بين ايرانوالولاياتالمتحدة حول افغانستان". وهو من جهة اخرى يشكل بداية ايجابية وتجريبية، لانتظام مؤتمر دولي يضم مختلف الاطراف الداخلية والاقليمية والدولية المعنية بافغانستان. وكانت باكستان قد دعت اليه لكنها فشلت في تنظيمه بسبب تحولها الى طرف مباشر من خلال دعمها لحركة طالبان. ويبدو جلياً ان مختلف الاطراف الافغانية المتناحرة شعرت في الاشهر الاخيرة، ان الحل العسكري في حكم المستحيل. فالانتصار الساحق الذي يلغي طرفاً لمصلحة الاطراف الاخرى، ليس وارداً. فها هي حركة طالبان التي ربحت مختلف المعارك في البداية وكادت تلغي مقاومة الآخرين سقطت في امتحان مدينة مزار شريف. وبدورها فان الفصائل الاخرى التي تضم تحالف ميليشيات الجنرال دوستم الاوزبكية، وقوات أحمد شاه مسعود الطاجكية ورجال الحركة الاسلامية للهزارة الشيعة، تتخندق في مواقعها. وحتى لو جرى افتراضاً، نجاح أحمد شاه مسعود في هجومه المباغت في عز الشتاء على كابول فان ذلك لا يعني اكثر من تحول طارئ وغير نهائي، لأن قوات حركة طالبان تستطيع بدورها ان تتخندق في منطقة قندهار معقل البشتون، ومعنى ذلك استمرار الحرب في صيغة جديدة من الكر والفر. ومجرد الحديث عن ان أحمد مسعود شاه قد استولى على منطقة فجراب الاستراتيجية "مقابل مبالغ طائلة من المال" يعني ان كل شيء قابل للتحول والتغيير بوجود المال قبل الرجال والمدافع. ذلك انه ستتمكن دائماً قوى ودول قادرة على ضخ هذا المال متى وجدت ان مصالحها الدائمة أو الطارئة تفرض ذلك. ومما يؤشر الى هذا العرض لدى مختلف القوى الافغانية: اعلان حركة طالبان عن قبولها بالتفاوض مع باقي الفصائل، بعدما كانت تطالبهم بالانضمام اليها والخضوع لاحكامها. وكان ملا وكيل احمد متوكل قد اقترح على مسعود في أول اتصال هاتفي من نوعه بينهما "ان تشكل المعارضة وفداً من العلماء لاجراء محادثات مع علماء الحركة". وأضاف متوكل: "اننا طالبان نؤمن بحكومة اسلامية تمثل كل القبائل". ورغم ان التمثيل هنا محصور بالقبائل. لكن متى كان يمكن الفصل بين التمثيل القبلي والتمثيل السياسي لدى الفصائل المتصارعة في افغانستان؟! زيارة برهان الدين رباني الى باكستان ولقاؤه رئيس الوزراء نواز شريف ليس كرئيس لافغانستان، وانما كزعيم سياسي له وزنه في البلاد. وتأكيده على ان الحل العسكري مستحيل وانه شكل لجنة من العلماء للجلوس والتحاور مع علماء الحركة، وهذا معناه قبول علني بمبادرة الطالبان. اطلاق سراح الميليشيات الهزارة الشيعة خمسة اسرى من حركة الطالبان، وهي التي وقفت سداً كبيراً مؤخراً في وجه الحركة في معارك مزار شريف. وكان الجنرال دوستم قد افرج بدوره عن 300 اسير من الطالبان. ويأتي هذا كله في وقت تأكد فيه حصول مذابح جماعية متبادلة بحق الاسرى من مختلف الفصائل. من الطبيعي ان كل هذه التطورات الافغانية الداخلية لا تكفي لزرع الامل، من دون حصول تطورات خارجية تتعلق بمختلف مواقف الاطراف الاقليمية والدولية. وذلك انه لا يمكن في صراع مثل الصراع الافغاني فصل الداخل عن الخارج، خاصة وان الداخل والخارج في الحالة الافغانية متداخلان بسبب التمازج العرقي والمذهبي الى درجة يصعب معها التمييز بينهما. باكستان، التي وقفت الى جانب طالبان منذ لحظة تشكلها كقوة اساسية في 1994، ثم دخولها في المواجهات حتى اجتياح كابول في 1996، تبدو وكأنها راجعت حساباتها بدقة، مما يدفعها لاتخاذ مواقف جديدة تتوافق مع استحالة فرض انتصار الطالبان عسكرياً ومع استجلاب الاعتراف الدولي بها وبحكومتها لاسباب عديدة تتعلق في ظاهرها بقضية حقوق الانسان وخاصة المرأة الافغانية. هذ التغير في الموقف تحدث عنه برهان الدين رباني الذي أكد بعد لقائه بنواز شريف ان "نياته طيبة" وانه طلب منه التدخل لدى طالبان للتراجع عن مواقفها الماضية. ويبدو ان هدف باكستان الحالي يتمثل في "استعادة مصداقيتها" لتعود وسيطاً محايداً مقبولاً بما يؤهلها لجمع مختلف القوى والاطراف حول طاولة مستديرة تؤدي الى حل سياسي في افغانستان. واذا كانت طهران مازالت تقدم السلاح والمال الى برهان الدين رباني بصفته رئيساً لافغانستان، فانها وقد اطمأنت الى حصتها في مشاريع الغاز والنفط في الجمهوريات الاسلامية من الاتحاد السوفياتي سابقاً، تبدو وكأنها بدأت تأخذ الامور بهدوء ومما ساهم في ذلك التحول في الموقف الاميركي من هذه المشاريع. ومما يدفع طهران الى هذا الهدوء انه سيبقي لها وجوداً مكثفاً في افغانستان من خلال الهزارة الشيعة وبذلك فانه لا يمكن الاستغناء عنها أو استبعادها من أي حل مستقبلي. بدورها فان موسكو التي اصبحت ترتبط بعلاقات وثيقة مع خصمها الكبير احمد شاه مسعود وايضاً برهان الدين رباني، الى درجة التحالف الذي يؤكده الاخير قبل موسكو، لم تعد تخشى كثيراً على مواقعها حاضراً ومستقبلاً، ولذلك دخلت في مباحثات ثلاثية مع واشنطنوطهران حول افغانستان. ومما يزيد في اطمئنان موسكو، انها تملك ما يمكنها دائماً التفاوض عليه مع اي حكومة افغانية مقبلة. ويتمثل هذا في خرائط حقول الالغام التي تضم عدة ملايين في انحاء افغانستان المختلفة. وواشنطن التي فقدت مؤخراً الامل بأن تسيطر حركة الطالبان نهائياً على افغانستان، اتجهت وكما اعلنت مراراً، نحو ضرورة العثور على حل سياسي يتوافق عليه الجميع، وهي في هذا التحول مثلما كانت في السابق، لا تخشى على مصالحها، لأنه اينما اتجه الحل فلها موقعها الخاص فيه. ان سقوط كابول بيد أحمد شاه مسعود أو عدم سقوطها، لن يغيّر الكثير من طبيعة الصراع في افغانستان. فالواقع الجغرافي والعرقي يبدو اقوى واعمق من كل التحولات، لأنه الثابت الوحيد في كل هذا الصراع. ولذلك فإن أي حل يجب ان يخرج البلاد من هذا التوازن المديد وإلا فانها ستبقى حرباً بلا نهاية!