يمثل حبيب الزحلاوي ظاهرة أقل ما يُقال فيها إنها ظاهرة غريبة في الحياة الأدبية المعاصرة، ولعل هذا هو السبب الذي حمل مؤرخي السير الأدبية على إغفاله من دراستهم، فلم يذكره يوسف أسعد داغر 1899 - 1981 في كتابه "مصادر الدراسة الأدبية"، ولا تناوله نجيب العقيقي 1916 - 1981 في كتابه "من الادب المقارن"، ولم يُشر إليه مسعود ضاهر في كتابه "الهجرة الشامية إلى مصر" ولم يهتم بسيرته الدكتور روبرت كامبل في كتابه "أعلام الأدب العربي المعاصر"، ولعل الوحيد الذي عُني به هو أنور الجندي في كتابه "النثر العربي المعاصر في مئة عام". وأقول إنه ظاهرة غريبة لأنه فرض نفسه على الحياة الأدبية بأسلوب "القبضايات" حتى وصفه الدكتور زكي المحاسني 1909 - 1972 بأنه "لا يكتب بقلم وإنما يكتب بهراوة". فقد أصدر الزحلاوي كتابين في نقد المفكرين المعاصرين هما "أدباء معاصرون" و"شيوخ الأدب الحديث" أَهْوَى بمطارقه فيهما على رؤوس أعلام العصر: طه حسين وتوفيق الحكيم وعزيز أباظة وحسين فوزي ومحمود تيمور وسلامة موسى وبشر فارس، ولم تسلم من تحرّشاته الأدبية جاذبية صدقي مع أنها كانت هي والدكتورة بنت الشاطئ شريكتين له في الفوز بجائزة مجمع اللغة العربية في مصر في الأدب القصصي عن عام 1954 - 1955. هاتفني الزحلاوي ذات يوم قائلاً إنه يرغب في زيارتي لاهدائي كتابه الجديد "شيوخ الأدب الحديث"، فرحّبت به وقدّم إليّ نسخة طرّزها بعبارة إهداء كريمة. وبعد انصرافه قلبّت صفحات الكتاب فألفيته يهاجمني بعنف لأنني لبيت دعوة مجلة "المجلة" وكتبت مقالاً عن سلامة موسى 1887 - 1958 بُعيد وفاته، وأدهشني أن يسوق لي المديح في عبارة الاهداء، ثم يتناولني بالهجاء في صُلب الكتاب! وبعد نحو أسبوعين هاتفني الزحلاوي معاتباً لأنني لم أكتب عن كتابه. فقلت له: وما قيمة شهادتي بعدما تناولت بالتجريح شخصي وكتاباتي؟ ثم قلت له انني سأطلب من صديقي العلاّمة السوري الدكتور زكي المحاسني أن يكتب عن كتابك، وهو رجل محايد يقول فيه قولة حق. وبمجرد أن أبديت هذه الرغبة إلى الدكتور المحاسني، درس الكتاب ثم وافاني بنقد له نشرته في عدد نيسان ابريل 1960 من مجلة "قافلة الزيت" التي كنت أمثلها في مصر. وليس أدّل على اسلوب الزحلاوي في تناول كبار الأدباء من الاستشهاد ببعض مما قاله المحاسني فيه، ولا أظنّه كان متحاملاً، حيث قال: - ما هكذا يا حبيب تُلقي القنابل الذرية في الأدب؟ - عالنَ الزحلاوي شيوخ الأدب بأنه مرسلٌ عليهم شواظاً من النار المقدسة تطهرهم لفحاتها. - أعمل الزحلاوي يديه في تمزيق أدب محمود تيمور حتى كاد يمزّق ثيابه. - ذكر الزحلاوي المساءات في حق سلامة موسى حتى جعله هزأة ودسيساً لعّاباً. - وجدت الزحلاوي في سائر فصوله صخّاباً شديد النقمة كأنه أحد كهنة الجحيم. - وضع الزحلاوي مسرحية "أهل الكهف" على مشرحته الدامية وغاص بمباضعه فيها إلى مرفقيه يُعمل فيها تقطيعاً وتهتيكاً. وختم المحاسني مقاله بقوله: اني أكره "دار المورغ" وأبتغي الفرار منها، وإذا سألني قُرّائي الأحبة: وما هي دار المورغ، قلت لهم إنها دار تشريح الجثث! كان الدكتور بشر فارس 1907 - 1963 قد نشر في مجلة "المقتطف" عدد أيار/ مايو 1944 قصيدة عنوانها "إلى زائرة"، وهي من الشعر الرمزي الذي لا يُستنبط معناه من القراءة العارضة. جرت القصيدة على النحو التالي: لو كنتِ ناصعة الجبين هيهات تنفضني الزياره ما روعةُ اللفظ المبين؟ السحر من وحي العباره ظلٌّ على وهج الحنين رسمته معجزة الاشاره خطّ تساقط كالحزين أرخى على العزم انكساره ماذا بوَجْدِ المحصنين صوتٌ شجٍ خلف الستاره غَيَّبتَ في العجب الدفين معنىً براعته البكاره دُراً يفوت الناظمين ونهضت تهديني بحاره خطوات وسواس رزين: وَهَبٌ تُعمِّيه الطهاره وبمجرد ظهور هذه القصيدة، عاود الزحلاوي الحنين إلى التحرش بناظمها الدكتور بشر فارس الذي صحّف اسمه في كتاب "شيوخ الأدب الحديث" إلى "نشر فهارس"، فأعلن في مجلة "الرسالة" المصرية لصاحبها أحمد حسن الزيات 1885 - 1968 وفي مجلة "الأديب" اللبنانية لصاحبها ألبير أديب 1908 - 1985 عن جائزة قدرها خمسة جنيهات مصرية أو مئة ليرة سورية لمن ينجح في شرح هذه الأبيات. ومع ان عدداً من الأدباء نجح في شرحها، ومنهم صلاح الأسير 1917 - 1971 وزكي طليمات 1896 - 1982 والشيخ عبدالله العلايلي 1914 - 1996، فقد قنع الزحلاوي بالضجّة التي أثارها، وبقيت الجنيهات الخمسة والليرات المئة مستقرة في جيبه. حياته الشخصية يغلّفها الغموض، فلا يُعرف شيء عن نشأته أو منابته الزحلاوية. يقول عن نفسه - كما روى ذلك أنور الجندي، أطال الله بقاءه، انه هاجر من لبنان إلى مصر بعد صدور الدستور العثماني، وكان يعمل قبل هجرته مراسلاً لبعض الصحف، كما اشتغل بالسياسة فحكم عليه بسبب كتاباته السياسية بالسجن، واضطر إلى الهرب إلى القاهرة. هذا هو كل ما قاله عن حياته السابقة على نزوحه من لبنان إلى مصر. أمّا دراسته، فتمثل علامة استفهام كبيرة وإنْ كان المؤكد أنه لا يحمل أي درجة علمية ولا كان - في ما رأيته بنفسي - يستطيع أن يُقيم عبارة سليمة لو تحدّث في مجلس أدبي، وما أندر المرات التي رأيته فيها في مجالس الأدباء - ولا سيما الشوام - التي كنت كثير الغشيان لها في الأربعينات والخمسينات عندما بدأتُ حياتي العملية في إدارة جريدة "الأهرام" وكان معظم العاملين فيها من الشوام، ثم عندما انتقلت إلى جريدة "المقطم" وكانت بدورها تعج بالشوام حتى ظُنَّ انني شاميّ مع انني من قرار صعيد مصر. ويقول المجاهد العربي محمد علي الطاهر 1896 - 1974 في كتابه "خمسون عاماً في القضايا العربية" إن الزحلاوي كان يعتبر "عاراً علينا نحن الشوام"، ولعلّ هذا يفسر سبب ابتعاده عن منتدياتهم، وما أكثرها في تلك الحقبة، كما يفسر غيابه عن مناسبة تكريم الشاعر خليل مطران 1872 - 1949 في مهرجان كبير احتشد شوام مصر للاسهام فيه في عام 1947. ولعلنا نهتدي في قصة "يقظة ضمير" التي فاز الزحلاوي بها بثلث جائزة مجمع اللغة العربية بمصر إلى ملامح من شخصيته. فهي قصة مغامر لبناني بدأ حياته خادماً ثم عمل مع السلطة العسكرية الفرنسية في الشام في حرب عام 1914 ثم في فترة احتلال الفرنسيين لبلاده، ولكنه انقلب بعد ذلك على فرنسا فتعرض للايذاء منها مما دفع به - في محاولة لاسترضائها - إلى الاشتغال كعميل لها حتى يكسب قوته. وفي الحرب العالمية الثانية عمل في السوق السوداء وربح مالاً وفيراً، وأحب فتاة لم تلبث أن تزوجت سواه في مصر. فسافر إلى مصر وفي نيته الانتقام من غريمه، ولكنه راجع نفسه وقرر تكفيراً عن كل سوءاته في الماضي ان يعيش كالراهب الزاهد. عندما جاء الزحلاوي إلى مصر، لجأ إلى الجالية الشامية عساها تدبر له عملاً، فأشفق عليه سليم وسمعان صدناوي صاحبا المتجر الضخم الذي يحمل اسمهما وألحقاه بائعاً في قسم الأحذية، ثم نقلاه إلى قسم بيع المنسوجات الحريرية. فلما استطاع ادخار قدر من المال، افتتح لنفسه متجراً متواضعاً في وكالة البلح في حي بولاق العتيق في القاهرة لبيع الحديد الخردة. وقد زرته في هذا المتجر الذي يشبه مغارة لا تدخلها الشمس ولا يضاء إلا بمصباح ضعيف. ولكن تجارة الخردة كانت تعود على صاحبها برزق موفور نسبياً. وعندما أراد الشاعر العوضي الوكيل 1915 - 1983 مداعبته في ديوانه "رسوم وشخصيات" وصف حياته بين خردة الحديد ووكالة البلح وتجارة الحرير بقوله: أبا الشام، ماذا وراء الحديد؟ وماذا وراء انتقاد القصيد؟ ملأت "الوكالة" فنّاً ونقداً وقارعتَ كل أديب عنيد لك النقدُ مثل شواظ اللهيب يصبّ على رأس طاغ مريد لك القَصص المُسلياتُ الحسانُ من كل لونٍ سنيّ فريد وليس بها حادث عاصفٌ وليس بها من عُرام شديد فكيف خلا العيشُ مِنْ ذا وذا؟ لذلك عندي غير السديد وكم كنت تنشر ثوب الحرير فأصبحت تطوي صِفاح الحديد وكم لك بينهما قصة تتيح لك المجد بين الوجود وتجارة الزحلاوي بالخردة حدت بالشاعر عبدالله عفيفي، الذي كان يلقب بشاعر الحضرة الملكية، إلى وصفه بأنه "بائع الأحذية والأدب". التقيت بحبيب الزحلاوي للمرة الأخيرة في مكتب البريد الرئيسي في ميدان العتبة في القاهرة، وكانت سنّه قد علت، وبصره قد وَهَن، وصار يعتمد على عكازة غليظة، ويكاد يزحف في مشيته لأنه كان فارع الطول ثقيل البدن. وسألته عن أحواله فعلمت منه أنه باع متجره، وتنكرت له أسرته فارتضى أن يعمل حارساً في مكتبة تبيع الكتب القديمة في حي الفجالة، وقال إنه يفكر جدياً في الهجرة لأن أصدقاءه المغتربين زيّنوا له طريق الهجرة كيما يصبح من أدباء المهجر المشهورين. ولم آخذ كلامه مأخذ الجدّ، ولكن يبدو أن جهامة الحياة أكرهته على ركوب مراكب الهجرة لأنني لم أعد أصادفه بعد ذلك، وانقطعت عني أخباره تماماً إلى ان قرأت في مجلة "الهلال" أن محررها صالح جودت 1912 - 1976 تلقى رسالة من الزحلاوي مرسلة من كولومبيا في أميركا الجنوبية تفيد وصوله إلى هناك، ثم تلقى رسالة تالية من صديق للزحلاوي ينعاه إليه عن عمر شارف التسعين. نشر حبيب الزحلاوي، عدا الكتب التي سلفت الاشارة إليها، مجموعات من الأقاصيص هي "شعار قلب" و"أنات غريب" و"ضحكات القدر". وذكر أنيس منصور ان الزحلاوي كان يعتزم تأليف كتاب يهاجم فيه نفسه بعدما هاجم كل أعلام عصره، ولكن المؤكد ان هذا الكتاب لم يصدر، ولعل الزحلاوي قصد بترويج هذه الحكاية أن يلتمس عند الذين نقدهم عذراً، وكأنه يقول عن نفسه إنه ليس فوق مستوى النقد. وصفوة القول في الزحلاوي إنه كان غريباً عن المجتمع الأدبي المصري والمجتمع الشامي بسبب شخصيته الهجومية الشرسة، ولعله أحدث ضجيجاً ولكن، من دون طحن، فقد بقي الاعلام اعلاماً ولم ينهدم أحد منهم تحت معاول الزحلاوي. وهو إن استحق جائزة عن أعماله، فهي الجائزة التي يطلق عليها في الغرب Booby Prize التي تمنح لآخر المتسابقين في الشوط تسرية لهم عن خسارة المباراة.