أفلح العلماء لأول مرة في استخدام مادة كيماوية طبيعية تطيل عمر الخلايا البشرية وقد تجعلها خالدة لا تموت. وأعلن الفريق العلمي الأميركي الذي قام بالتجربة أن الخلايا التي تم تجهيزها بهذه المادة واصلت التكاثر بحيوية فوق العمر المقدر لها، ولم تظهر عليها علامات الشيخوخة، واستمر بعضها في النمو دون توقف. والسؤال الذي يتردد في الأوساط العلمية الدولية، هو: هل يمكن استخدام هذه المادة التي تُدعى "تيلوميريس" للابطاء من عملية الشيخوخة واطالة عمر الانسان؟ نبع الشباب توجد مادة "تيلوميريس"، على شكل أنزيم طبيعي في جسم الانسان، وتكثر في الخلايا الشابة، لكنها تضمحل وتختفي مع تقدم الخلية في العمر. وتوجد "تيلوميريس" في شكل دائم في الخلايا الجنسية التي لا تفنى وتتوالد عبر الأجيال. وذكر تقرير لفريق العلماء الذين اكتشفوا طريقة عمل هذه المادة أنها تمثل "نبع الشباب الخالد"، وأشار العلماء في تقريرهم الذي نشر في المجلة العلمية الأميركية "ساينس" الى أنها تتحكم ب"الساعة البيولوجية" التي تحدد عمر الخلايا. وأثار الاعلان عن الاكتشاف ردود أُفعال مختلفة. بعض العلماء يعتقدون بأن "تيلوميريس" تساعد على إطالة عمر الانسان الى 150 عاماً على الأقل. ويرى علماء آخرون أن الاكتشاف الجديد يحدث ثورة في الصناعات البيولوجية والصيدلانية. ذكرت ذلك المجلة العلمية البريطانية "نيوساينتست"، التي قالت في افتتاحية عددها الأخير المكرسة للموضوع أن "تيلوميريس" تضع في يد العلم مادة بشرية لاجراء التجارب بدلاً من الحيوانات، وأشارت الى امكانية استخدامها للتوصل الى علاج للسرطان والأمراض الوراثية التي تنشأ عن خلل في التركيب الجيني للخلايا. هذه التوقعات تفسر ارتفاع أسهم الشركة الأميركية التي ساهم علماؤها في التجارب 43 في المئة بعد الاعلان مباشرة عن الاكتشاف في الاسبوع الماضي. لكن بعض العلماء ذكروا أن "تيلوميريس" تظهر بكثرة في الخلايا السرطانية، وهي السبب في "خلود" هذه الخلايا واستمرارها في التكاثر دون توقف، وحذروا من أن استخدامها في اطالة عمر الانسان وتجديد شبابه قد يؤدي الى الاصابة بالسرطان. الساعة البيولوجية ما هي تيلوميريس Telomerase وكيف يمكن أن تطيل عمر الانسان؟ للاجابة عن هذا السؤال ينبغي التعرف علي الخلايا، التي يتكون منها جسم الانسان. فحياة الانسان من حياة خلاياه. والانسان ينشأ من خلية واحدة وينمو بتنامي الخلايا التي تواصل الانقسام حتى يبلغ عددها في جسمه نحو 10 ترليونات خلية. داخل نواة كل خلية توجد الكروموسومات الصبغيات التي تتضمن المخطط الأساسي لجسم الانسان. وفي كل مرة تنقسم الخلايا تستنسخ كل الكروموسومات باستثناء جزيئات كيماوية صغيرة جداً في طرف الكروموسوم يطلق عليها اسم "تيلومير" Telomere. تشبه هذه الجزيئات النهاية البلاستيكية لطرف رباط الحذاء التي تحميه من الاهتراء. فهي تعمل على منع اطراف الكروموسومات من التلاصق خلال عملية الانقسام وتكوين كروموسومات جديدة. لكن مع استمرار الخلية في الانقسام يقصر طول التيلومير ويضمحل بمرور الزمن الى حد يشربك الكروموسوم ويؤدي الى توقف الخلية عن الانقسام والموت. وقد ساورت الشكوك العلماء منذ سنوات بأن هذه الجزيئات تمثل الساعة البيولوجية للجسم. وتأكدت هذه التصورات عندما نجح فريق من العلماء الأميركيين في تجهيز الخلايا بانزيم يجدد "تيلومير" ويجعل الخلية تستمر في الحياة والتكاثر دون توقف. وذكر الفريق الذي يرأسه جيري شاي في جامعة تكساس ويساهم فيه علماء من شركة "غيرون" في كاليفورنيا أن أنزيم "تيلوميريس" Telomerase الذي استخدموه في التجارب حافظ على مادة "تيلومير". يكثر هذا الانزيم عادة في الخلايا الشابة ويقل مع تقدم الخلية في العمر، وعند اضافته الي الخلايا الهرمة يجدد "تيلومير" شبابها ويجعل الخلايا تواصل التكاثر بحيوية وعنفوان. أكسير الخلود! هل يوقف الانجاز العلمي الجديد الشيخوخة ويطيل عمر الانسان؟ الدكتور وودرينغ رايت الذي ساهم في الاكتشاف أكد أن الامكانيات بعيدة المدى للاكتشاف مذهلة. وقال رايت أن من الممكن في المستقبل أخذ خلايا المريض وتجديدها وتعديلها وفق الحاجة واعادتها الى جسمه لمعالجة المرض الذي أصابه. وذكر العالم الأميركي أنهم وضعوا خلال أبحاثهم كميات اضافية من "تيلوميريس" في ثلاثة أنواع من الخلايا البشرية التي جرت تنميتها في صحون الاختبار، ولاحظوا في جميع الحالات أن الخلايا واصلت الانقسام فترة أطول من المعتاد. الخلايا التي تنقسم عادة 40 أو 90 مرة واصلت الانقسام أكثر من 40 مرة اضافية، وكثير منها لم يتوقف عن الانقسام حتى نشر تقرير الفريق العلمى في مجلة "ساينتست". اضافة الى ذلك فان الخلايا بدت "شابة" تحت المجهر، وأكد الفحص الجزيئي أن تركيبها البيوكيماوي شاباً. وقال الدكتور رايت أننا نعتقد بقوة أن هذه الخلايا أصبحت "خالدة". لكن تحقيق معجزة اطالة عمر خلايا بشرية داخل المختبر شئ مختلف عن اطالة عمر انسان كامل. وقد تمر سنوات قبل أن يتوصل العلماء الى طريقة لتحويل هذا الاكتشاف الى أدوية وطرق علاج. ويقر الدكتور رايت أن الشيخوخة قد تكون أكثر من مجرد تراكم الخلايا الهرمة. مع ذلك فهو لا يستبعد أن يؤدي اعطاء جرعات من "تيلوميريس" الى الحفاظ على شباب بعض الأنسجة أو الأعضاء. قد لا يطيل الانزيم عمر الانسان، لكنه قد يديم الصحة، ويحسّن نوعية الحياة. علاج تيلوميريس ويشير الدكتور كالفن هيرلي رئيس العلماء في شركة "غيرون" التي ساهمت في الابحاث أن هناك اضطرابات وأمراضاً عدة تلعب فيها شيخوخة الخلايا دوراً مهماً، بما في ذلك أمراض الجلد وعدم التئام الجروح لدى المتقدمين في السن، وفقدان البصر بسبب تدهور خلايا الشبكية، وبعض أمراض القلب. وقد ينفع علاج تيلوميريس في زرع نخاع العظام لمرضى السرطان. فخلايا النخاع المزروعة ينبغي أن تواصل الانقسام دون توقف لاستعادة تجهيز المريض بالدم، ويعتقد بعض الأطباء بأن تيلوميريس يمكن أن تكون "الوقود" الذي يؤمن استمرار الخلايا في الانقسام. وتستبعد الدكتورة أليزابيث ميلز من معهد أبحاث الشيخوخة أن يتحول الاكتشاف نفسه الى أقراص أو حقن لاعادة الشباب، لكنها تشير الى احتمال أن يساعد أنزيم "تيلوميريس" على تقديم فهم أفضل لأسباب التقدم في العمر. ويتوقع أن يؤدي التطور العلمي الجديد الى انتاج أدوية تساعد ليس على اطالة عمر الخلايا بل الى تقصيره والقضاء عليها. واضح أهمية دواء كهذا في علاج أمراض السرطان التي تنشأ أصلاً عن التكاثر المحموم للخلايا. وذكر غوردن ماكفي الباحث البريطاني في "حملة أبحاث السرطان" أن الانزيم مستهدف منذ فترة كو،سيلة لانتاج أدوية ضد السرطان. والاكتشاف الجديد يقدم الدليل على امكانية تحقيق ذلك. ويعتقد حتى المشككون بنفع الاكتشاف العلمي الجديد. ذكرت ذلك صحيفة "واشنطن بوست"، وقالت في تقرير عن الموضوع أن مختبرات الأبحاث والصناعات البيولوجية والصيدلانية تنفق أموالا طائلة للحصول علي أنسجة الخلايا. وهذه الخلايا مطلوبة بكثرة للتجارب الطبية وانتاج الأدوية الجينية والأمصال. ولا أحد ينكر الأهمية العلمية الفائقة لوجود طريقة لهندسة خلايا تتكاثر فترة طويلة أو الى الأبد.