منحت جائزة نوبل في الطب والفسيولوجيا لهذا العام إلى ثلاثة علماء أمريكيين على اكتشافاتهم المتعلقة بآلية حماية أطراف الجسيمات الوراثية (الكروموسومات) في الخلية من التلف والتآكل. لأول وهلة تبدو هذه الاكتشافات بل الموضوع كله وكأنه يعالج تفاصيل صغيرة لا تهم إلا المتخصصين في علم الخلية. الواقع أن لهذه الاكتشافات ولهذا الموضوع أبعادا واسعة تتطرق إلى آلية الشيخوخة في الخلية وموتها من ناحية، ومن ناحية أخرى إلى أسلوب تحورها من خلية طبيعية ذات عمر محدود إلى خلية سرطانية جامحة تتكاثر بدون توقف وتسبب الأورام الخبيثة في الجسم. الفائز الأول هي العالمة إليزابيث بلاكبيرن، أسترالية المولد، التي قامت في عام 1984م مع الفائز الثاني العالم جاك زوستاك، بريطاني المولد، باكتشاف تتابع محدد في نهاية فتلة جزيء الحامض النووي (د.ن.ا.) DNA التي يتكون منها الكروموسوم حيث تقع هذه النهاية في المنطقة الطرفية التي تسمى «تيلومير». ويرجع الفضل إلى هذا التتابع في حماية طرف الكروموسوم من التآكل. يتكون التتابع من القواعد النووية وفقا للترتيب التالي: TTAGGG حيث يتكرر هذا التتابع بصورة متتالية مرات كثيرة قد تتجاوز الألف مرة في الخلية حديثة الولادة. ومع كل انقسام للخلية ينقص طول التيلومير بسبب فقدان 50 إلى 200 قاعدة، فيصبح أقصر وأقصر. حتى إذا وصل حدا معينا من القصر دخلت الخلية في مرحلة الشيخوخة التي لا رجعة منها، ثم ماتت. الفائزة الثالثة، كارول جرايدر، اكتشفت مع الفائزة الأولى بلاكبيرن إنزيم التيلوميريز وهو الإنزيم الذي يصنع التيلومير ويحافظ عليه بصورة ثابتة في الخلايا الجذعية والتناسلية بإضافة نسخ من التتابع الموضح أعلاه إلى الطرف النهائي للحامض النووي. كما يوجد إنزيم التيلوميريز بصورة نشطة في الخلايا السرطانية حيث يقوم هنالك بالمحافظة على التيلومير ومنعه من التآكل، مما يساعد الخلايا السرطانية على التكاثر إلى ما لا نهاية دون الدخول في مرحلة الشيخوخة والفناء كما هي الحال في الخلايا الطبيعية. توحي هذه الاكتشافات أن حماية التيلومير من التآكل قد يترتب عليها المحافظة على الخلية في مرحلة الصبا الدائم وعدم دخولها في مرحلة الشيخوخة التي تؤدي بها إلى الوفاة. هذا طبعا إذا ضمنا أن لا يؤدي ذلك إلى اكتساب الخلية خواص سرطانية فتاكة. وقد أثار هذا الاحتمال المبني على حماية التيلومير أحلاما بإطالة فترة الشباب ليس فقط في الخلية وإنما في الحيوانات أو حتى الإنسان. من الناحية المقابلة وحيث إن نشاط إنزيم التيلوميريز يبدو ضروريا لتكاثر الخلايا السرطانية بصورة لا تنتهي، فإن ذلك يفتح بابا واسعا لإيقاف نشاط هذا الإنزيم بالأدوية وبالتالي منع التكاثر السرطاني لهذه الخلايا.. هذه الاحتمالات الواعدة فتحت شهية ليس فقط الباحثين بل أيضا شركات صنع الدواء واللقاح لمحاولة إنتاج دواء مثبط لعمل التيلوميريز أو لقاح يتمكن من تمكين الخلايا المناعية في الجسم من التعرف على الخلايا السرطانية المفرزة لهذا الإنزيم والفتك بها. وبالفعل دخلت بعض اللقاحات مرحلة التجارب السريرية مثل اللقاح الذي أنتجته شركة جيرون بالتعاون مع جامعة دوك الأمريكية منذ عام 2005م لعلاج سرطان البروستاتا وغيره. للأسف لا يبدو الموضوع بهذه البساطة حيث ظهرت خلال السنوات الماضية عدة نتائج لا تتماشى مع الدور المقترح أعلاه للتيلوميرات بل تدل على أن هناك تعقيدات كثيرة تخضع لها معادلة الانقسام والشيخوخة والوفاة وكذلك التحولات السرطانية للخلية. هذه الأمور على ما يبدو لا تتوقف فقط على طول التيلوميرات بل تشترك فيها عوامل أخرى كثيرة. موت الخلية (apoptosis)، مثلا، يحدث وفق برنامج معين يسمى (programmed cell death)، وقبل بضعة أعوام كان منح جائزة نوبل على اكتشاف هذا البرنامج. وهناك العديد من الجينات (oncogenes) المسؤولة عن تحفيز الخلايا على الانقسام و الجينات الأخرى (tumor suppressors) التي تعمل على منعها من الانقسام، ولكل من هاذين النوع أدوار مختلفة في التحورات السرطانية. رغم كل التعقيدات تبقى التيلوميرات وإنزيم التيلوميريز من المواضيع المثيرة والواعدة على تحقيق فهم أعمق لوظائف الخلايا وبعض أسرار الشيخوخة والوفاة، وربما على اكتشاف علاج أو لقاح لبعض أنواع السرطان. وفوق كل ذي علم عليم. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 133 مسافة ثم الرسالة