قد يكون هناك ما يبرر ذلك القلق العربي إزاء "التحالف" الاسرائيلي - التركي الجديد. بيد ان هناك ما يفسر "القدر" الذي أوصل أنقرة لربط أوردتها السياسية في المنطقة بتلك الواردة من تل أبيب. فلتركيا مصالح اقليمية ودولية، ولتركيا حقل استراتيجي سواء كان لدى "الحليف" الغربي أو كان لدى الجار الشرقي. وفي جردة حساب بسيطة خرجت أنقرة بمعادلة ترجح كفة اقترابها من الدولة العبرية، حتى لو جاء ذلك على حساب علاقاتها العربية. على ان من الوجوب التسليم بأن العناصر المؤسسة للسياسة التركية المصالح، الأمن، الدور الاستراتيجي... ليست كافية لدفع أنقرة الى حرق المراحل وقطع شعرة معاوية مع بيئتها العربية. فإذا كانت تركيا من أوائل الدول التي اعترفت بدولة اسرائيل منذ انشائها، فإن الدول العربية افتقدت الى سياسة مشتركة للتعامل مع الحالة التركية، ومحاولة استمالتها لمناصرة قضايا العرب. هذا القصور لا ينطبق على سياسة العرب تجاه تركيا فحسب، بل ينسحب على دول ومناطق جغرا- سياسية أخرى، بحيث يظهر مدى غياب وإهمال سياسة تفهم بتجذير وتمتين علاقة المنطقة بالدوائر الجغرافية المحيطة على الأقل. وقد لا يغيب عن بال المراقب ان هناك علاقة جدلية ما بين صلة العالم العربي بإسرائيل وصلة دول العالم بها، ذلك ان "الانفراج" ما بين اسرائيل واعدائها العرب، مبرر لبقية دول العالم المقاطعة لاسرائيل كما كان الحال في القارة الافريقية بإعادة النظر بسياساتها تجاه اسرائيل، وقد يكون شرعياً ان تساءل هذه الدول نفسها عن مغزى التوتر في علاقة مع دولة أوقف اعداؤها الحقيقيون مقاطعتها. إن القبول بصيغة "مدريد" يضع الدول العربية على سكة القبول بالوجود الاسرائيلي ضمن الحدود التي تسمح بها قرارات مجلس الأمن. هذه الصيغة، ومهما طالت أو تعثرت، فرضت شروطاً جديدة للتعامل مع الحالة الاسرائيلية في المنطقة بحيث انتقلت من اطار النفي واللااعتراف الى اطار القبول بالآخر والتعامل معه علنياً حتى لو اعترى هذا التعامل توتراً حتى حدود الحرب. والاتفاق التركي - الاسرائيلي ما كان له ان يرى النور لولا ولادة "مدريد"، فبالنسبة للاتراك فإن المنطقة مقبلة على سلام، وعلى أنقرة تفعيل سياساتها بحيث يتاح لها الاستفادة من الوجود العلني و"الشرعي" لاسرائيل طالما ان اندماجها في المنطقة، وبر ضا العرب، ما هي الا مسألة وقت. إن ولادة نظام عالمي جديد منذ انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكية، اضافة الى تدشين مرحلة "مدريد" في منطقة الشرق الأوسط، أدخل هذه الأخيرة تحت مظلة مستحدثة اسمها الشرق أوسطية. ففي بوتقة هذا التعريف تتقاسم المنطقة مجموعة من المصالح والدول تتصارع وتتنافس وتتحالف وفق الظروف الموضوعية العالم العربي مثلاً أو التكتيكية الاتفاق الاسرائيلي - التركي. ويبرز ضمن هذا النظام الاقليمي تضاد الأقطاب: الدول العربية بتناقضاتها، ايران، تركيا واسرائيل. وعلى رغم مشروعية القلق الذي يعتمر القادة العرب من جراء هذا التقارب "المشبوه" بين تركيا واسرائيل، إلا انه ينبعي حصر تطور العلاقات التركية - الاسرائيلية ضمن حدودها الحقيقية، والنظر اليها كتفصيل في تاريخ هذه المنطقة. فلا شيء يدعو الى سرمدية هذه العلاقة بين أنقرة وتل ابيب. فلا التاريخ ولا الدين ولا الجغرافيا ولا العلاقة مع العالم العربي تسمح باستقراء مستقبل زاهر لتحالف الدولتين على حساب المحيط العربي. فإذا كانت الحاجة المرحلية أملت على أنقرة سلوكاً بهذا الاتجاه، فإن مرحلة اخرى وظروفاً مختلفة ستجبر تركيا على تصويب مساراتها باتجاه العالم العربي. وبعيداً عن لغة الخطابات والشعارات، فإن من حق تركيا ان نعترف لها بمصالح ورؤى وسلوكيات سياسية متباينة. ومن حق الاتراك وصحافتهم ان يتساءلوا عما فعل العرب لتمتين أواصر العلاقة معهم وماذا يستفيد الاتراك من عداء للدولة العبرية. كما ان على العرب ان يتذكروا انهم شاؤوا أم أبوا يتقاسمون تاريخاً مشتركاً مع أحفاد الدولة العثمانية، حتى ان شريحة عربية واسعة لم تعتبر يوماً الوجود العثماني استعماراً أو احتلالاً بل استمرارية للدولة والخلافة الاسلامية. ولا نرمي من خلال هذه العجالة الى التقليل من أن الاتفاق الإسرائيلي - التركي الأخير، بل الدعوة الى عدم الرجوع الى منطق التهويل والايحاء الدائم بأننا ضحية "مؤامرة". وربما من المفيد التأكيد على مواقف مبدئية لا يمكن إهمالها، دون اغفال السعي لقلب الصيغة الجديدة بشكل لا ينفر الجار التركي ولا يرمي به بسذاجة في أحضان تل أبيب.