التعاقب السريع للأحداث ينطوي على جانب سلبي، اذ ان الوقائع تتراكم على بعضها بعضاً وتزيح الى المرتبة الثانية أو تطمس أهمية أحداث يقدَّر لكل منها ان يكون مرحلة ويترك أثره في التاريخ. وأنا أضع قمة منظمة المؤتمر الاسلامي الأخيرة التي انعقدت في طهران ضمن هذه الأحداث. وابدأ بالاشارة الى ان لقاء طهران غدا نجاحاً مؤكداً، وفي ما يمكن ان يبدو مفارقة اعتقد انه كان نجاحاً لجميع المشاركين فيه واقصد بالدرجة الأولى واقع ان القمة زادت من أهمية الأسرة الاسلامية في العالم واذا توخينا الحديث عن القضايا الكبرى فإنه لا يمكن القول ان القمة أكدت تحرك النظام السياسي العالمي نحو الهيكل المتعدد الأقطاب. فمن البديهي ان العالم الاسلامي لا يريد ان يكون ضمن دائرة جذب واحد أو عدد من المراكز، ويسعى الى تكوين قطبه الخاص. هل سيتسنى ذلك أم لا، هذه قضية اخرى سيجيب عنها المستقبل، الا ان التوجه واضح بداهة والموضوع لا يكمن فقط، وتحديداً، في مكان انعقاد القمة وما يترتب على ذلك من سياق سياسي، على رغم ان هذا الواقع أضفى على اللقاء نوعاً من الفرادة. فأنا واثق بأن مثل هذا اللقاء الذي يجمع قادة العالم الاسلامي كان نضج وآن أوانه منذ أمد بعيد. وليس اعتباطاً ان يشير الرئيس السوري حافظ الأسد الى ان القمة كانت الأكثر نجاحاً اذا قورنت باللقاءات السابقة. وعلى رغم ذلك لنبدأ بمكان اللقاء، ففي البداية ظهرت مواقف متباينة لدى عدد من البلدان حيال عقد القمة في طهران. ولكن الغلبة كانت لرأي بعيد النظر يدعو الى تأييد اختيار العاصمة الايرانية. وعلى حد علمي فإن قيادة المملكة العربية السعودية اتبعت نهجاً صائباً تماماً حيال هذا الموضوع. وطبيعي ان تزامن انعقاد المؤتمر في طهران مع المرحلة الأولى من عمل الرئيس الايراني الجديد هو محض صدفة. ولكنها من الصدف التي تنبثق منها المسيرة المنطقية للتاريخ. ويتفق الجميع على ان هذا التزامن - الصدفة لعب دوره في انجاح القمة اذ ان المشاركين فيها، وسواهم أيضاً، انتبهوا الى المقاصد التي ركز عليها الرئيس الايراني في خطابه. وأنا كشخص أتعاطى السياسة على تخوم العالمين الاسلامي والمسيحي أوليت أهمية كبيرة الى دعوة الرئيس للحوار والتعاون بين هاتين الحضارتىن، وبوسعي ان أضع هذه الدعوة بين أهم نتائج القمة. كانت هناك، طبعاً، طروحات عن التناقض بين القيم الاسلامية والثقافة الغربية، الا ان لها منشأ يمكن تلمسه اذا راعينا ان غالبية الدول الاسلامية كانت مستعمرة سابقاً. ولكنني كمواطن روسي اعتقد ان من المهم الا يعتبر كل ما يوجد خارج اطار الحضارة الاسلامية نمطاً غربياً أو يوضع في شكل متعسف وآلي ضمن هذا السياق. وروسيا بوصفها بلداً متعدد الطوائف لا يمكن ان تسمح لنفسها بمثل هذا التسطيح في المفاهيم والقيم. وليس ثمة شك في ان ايران كسبت من انعقاد القمة. ويرى الخبراء ان القيادة الايرانية ستحاول استخلاص أقصى قدر من المنافع من رئاستها لمنظمة المؤتمر الاسلامي، وهذا أمر طبيعي ولم يكن في الامكان افتراض سواه وان كان المختصون يطرحون تساؤلات عن مدى سرعة تأقلم أمانة المنظمة مع الظروف الجديدة، اذ من الواضح للجميع ان السنوات الثلاث التي ستكون خلالها المنظمة برئاسة ايران لن تغدو حقبة شكلية سيترتب عليها التوصل الى آلية محددة للتفاعل والعمل. وهناك أيضاً رأي مفاده ان اعادة اصطفاف للقوى ستجري داخل المنظمة. ويشير المحللون الى ثلاث مجموعات اقليمية، آسيوية وعربية وافريقية، على رغم ان هذا المعيار الاقليمي يبدو عمومياً ويستبعد ان يكون تجسيداً لكل ظلال توازنات القوى والأهواء داخل المنظمة. وبهذا المعنى ثمة توقع بأن تصبح ايران من اللاعبين الاقليميين الكبار. ويؤكد الكثيرون جانباً مهماً آخر، وهو ان النتائج السياسية للقمة لن تضيف فرص نجاح الى مبدأ "الاحتواء المزدوج" الذي يبدو هذه الأيام انه "يخسر" بوضوح في السجال الجاري بصورة غير معلنة وان كانت واضحة للجميع مع الشعار الأوروبي عن "الحوار النقدي". ولئن كانت الصدارة قبل ثلاثة أو أربعة أشهر لكلمة "النقدي" فأنا أعتقد ان الغلبة الآن لمفردة "الحوار". وثمة نتيجة سياسية اخرى أسفرت عنها القمة، وهي انها أتاحت لبعض الساسة العرب الفرصة للمجيء الى طهران للمرة الأولى منذ الثورة الاسلامية. ولم يقتصر الأمر على الوفود الى العاصمة الايرانية بل جرت لقاءات مع القيادة الجديدة في طهران واجريت مفاوضات للجانبين مصلحة فيها. وبديهي انه لم يفت المراقبين في هذا السياق ان يلاحظوا اللقاءات مع قادة دول الخليج. وفي هذا الصدد يميل عدد من المحللين الى رأي مفاده ان القمة سترسي بداية، أو بالأحرى ترسخ، اتجاهاً ظهرت بوادره نحو حوار أكثر كثافة بين طهران ودول مجلس التعاون. ولكن هناك خبراء آخرون يطرحون رأياً أكثر تحفظاً مفاده ان بلدان الخليج لن تتحمس لتعاظم دور ايران. والى ذلك فإن مشكلة الجزر والموضوع الذي يسميه الايرانيون "الوجود العسكري الاجنبي" يضعان حدوداً للتقارب بين الطرفين. بيد ان هناك اجماعاً على ان دفئاً مسيطراً على جو العلاقات الايرانية - الخليجية. واستأثرت القرارات السياسية للقمة وجودها العام بالانتباه. وتجدر الاشارة الى المناقشة المكثفة لموضوع الارهاب والتوجه نحو محاربته. وأنا واثق بأن التنديد الواضح والمسموع بالارهاب في قمة طهران له اهمية استثنائية كتأكيد مقنع على ان الاسلام الحقيقي لا يجمعه جامع باستخدام القوة والعنف. وابان ذلك جرى وضع حد فاصل بين الارهاب وحركات التحرر الوطني. وهذا الطرح لا يثير اعتراضات من حيث المبدأ، لكنه على الأرجح يعني ضمناً ان التذرع بالحركات التحررية لن يستخدم بشكل متعسف حينما يجري الحديث عن حركات انفصالية صريحة أو تطلعات قومية ضيقة. وأشير، استطراداً، الى ان موسكو شعرت بالارتياح لأن أحداً من المشاركين في لقاء طهران لم يحاول اثارة ما يسمى بپ"القضية الشيشانية". وهذا الاجماع على الاقرار بواقع أكيد مفاده ان الشيشان جزء من روسيا الاتحادية، انما يدل على المستوى الرفيع للتعامل المتزن للأسرة الاسلامية مع الحالات التي تحاول الانفصالية في ظلها ان تتحدى مبدأ وحدة اراضي الدول. وفي ما يتعلق بالوضع في الشرق الأوسط فإن قرارات القمة تبدو صارمة بما فيه الكفاية. وهذا الواقع ليس مجرد انعكاس لموقف جملة من الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الاسلامي، بل انه أيضاً نتيجة للوضع المعقد، بل الطريق المسدود في واقع الحال، في المفاوضات العربية - الاسرائيلية. وتعتقد روسيا ان الاشارة التي صدرت عن القمة ينبغي التعامل معها بكل جدية. وبديهي ان نقاشات ستثار حول مقترح منح منظمة المؤتمر الاسلامي مقعد في مجلس الأمن. فمن جهة يبدو مفهوماً سعي الاسرة الاسلامية الى ان يكون لها تمثيل أكبر وزناً في هذه الهيئة الدولية ومن جهة اخرى يظهر لدى الخبراء تساؤل عما اذا كان يحق في هذه الحال لأسرة الدول المسيحية أو البلدان التي تعتنق غالبية سكانها البوذية المطالبة بموقع مماثل. وما دام الحديث يدور عن تمثيل مجموعة من البلدان وليس دولة واحدة فإن السابقة وهي في السياسة "ملك" كما في القانون تسمح بالنظر في امكان منح عضوية المجلس لدول آسيان أو أسرة الدول المستقلة أو منظمة الوحدة الافريقية أو حتى حلف الاطلسي. وبالمناسبة، ما العمل في كل هذه الحال بالنسبة الى حركة عدم الانحياز؟ وقد لاحظ المراقبون ان القضايا المتعلقة بالحركة لم تطرح خلال قمة طهران. مثل هذه تساؤلات للمستقبل. ولكن بديهي منذ الآن ان امام منظمة المؤتمر الاسلامي عمل سياسي كبير، وقد نشرت الصحافة العربية معلومات مفادها ان في العالم الاسلامي زهاء 20 بؤرة نزاع "ساخنة" او تحت الرماد، وان ثلث اعضاء منظمة المؤتمر الاسلامي التي ينتمي اليها 55 بلداً ضالعون بهذه الصورة او تلك في نزاعات تتطلب حلاً. ومن جديد يثار تساؤل عن ماهية الميكانيزم الكفيل بايجاد انسجام بين وجهات نظر 55 عضواً. وواضح ان الموقف النهائي المتفق عليه لا يمكن ان يكون هلامياً او مفرغاً من الجوهر، بل يجب ان يغدو قادراً على الفعل. واستأثر بالانتباه قول الزعيم الايراني ان المنظمة يجب ان تصبح آلية لتوحيد كلمة المسلمين وحكماً للفصل في النزاعات القائمة بينهم ومرشداً في بعض الاحيان. ثمة احتياطي اكبر لم يستثمر بعد في مجال الاقتصاد. وليس صدفة ان رئيس وفد عربي اعترف بأن الامة الاسلامية، بسبب تشرذمها، لم تتمكن حتى الآن من مواكبة الدول المتطورة صناعياً وتكنولوجياً. ولاحظ المحللون ان مجموعة "الثمانية" التي تضم كبريات الدول الاسلامية لم تظهر بشكل ملحوظ في القمة. ويشار الى ان هذه المجموعة لم تصبح حتى الآن "قاطرة" للاسرة ان كان هذا الدور مقدراً لها اصلاً. ويرى البعض ان قضايا الطاقة وآفاق تطويرها في العالم الاسلامي لم تحتل الموقع الجدير بها بين الاولويات، في حين ان احتياطات الوقود الاساسية في العالم موجودة على اراضي البلدان الاعضاء في منظمة المؤتمر الاسلامي بل يمكن طرح القضية بشكل اوسع: هل ستتولى المنظمة معالجة الموضوع من هذه الزاوية او تلك، ام ستكون الغلبة للتوجه القائل بتفادي "أسلمة" مثل هذا الموضوع المهم. والحاقاً بذلك يستنتج المراقبون ان البلدان الواقعة في جنوب اسرة الدول المستقلة والتي حصلت، انضمت اخيراً الى منظمة المؤتمر الاسلامي لم تلعب الدور الذي يبدو انها كانت تطمح اليه. فهذه البلدان، على الارجح، كانت تأمل في ان يكون لقرارات القمة مضمون اقتصادي اوضح، بما في ذلك في مجال الطاقة والنقل. في اي حال، اضافت قمة طهران الواناً جديدة إلى الطيف السياسي في المنطقة واصبحت حدثاً له اهمية كبيرة ستظل محسوسة على امتداد السنوات الثلاث القادمة على اقل تقدير. وسوف يتمثل الامر الاهم في ماهية وطبيعة التحرك داخل العالم الاسلامي: فهل ستكون الغلبة للعناصر المركزية او العمركزية التوحيد او التنافر والى اي مدى سوف يتقبل العالم الاسلامي التأثيرات القادمة من الخارج، وهل سيتمكن من وضع حاجز منيع في وجه التطرف والغلو وقد عملت القمة في هذا الاتجاه تحديداً وكيف سيقترن السعي الى الحفاظ على الاصالة الاسلامية مع التوجه العام للعمليات الجارية في العالم؟