في واحدة من اللقاءات التلفزيونية لدوريس ليسنغ الروائية البريطانية الأشهر والحائزة على نوبل 2007، قالت ان الكثير من النقّاد يضعونها دائما في الموقع الخطأ، فهي مرة ناطقة باسم السود، وأخرى معبرّة عن أفكار الفامنيست، وثالثة ماركسية أو شيوعية، في حين هي لم تكتب يوما على هذا الاعتبار، فهي كاتبة فقط وتجمع كل حصادها من الحياة، غير ان ما يميزها اهتمامها بما يمكن أن نسميه الأفكار والتيارات التي تمثل عصرها. دوريس ليسنغ التي ماتت بسلام عند الفجر نهاية ماقبل الأسبوع المنصرم، عاشت ما يقارب القرن، وكان ما يميزها تلك القوة الخفية والطاقة والحيوية التي تتمتع بها، فقد واظبت على الكتابة قبل سن العشرين ولم تنقطع عنها حتى الثانية والتسعين. وربما لو لم تصبح ممرضة لابنها الذي سبقها الى الموت بثلاثة أسابيع فقط، لتجاوزت المئة عام. غير ان تلك المرأة التي اكتسبت طلة الجدة الطيبة منذ سنوات طويلة، كانت قد سخرت وهي في الثامنة والثمانين من لجنة تحكيم نوبل عندما قالت ان هديتهم جاءت حيث هي تودع الحياة. كي تعرّف نفسها في روايتها الإشكالية "المفكرة الذهبية" 1962، التي عُدت أهم عمل لها، كانت ليسنغ تقول عندما أعدت قراءة هذه الرواية، اكتشفت كم حاولت عبرها أن امسك بمشكلات الكتابة، الحساسية الفنية للكاتب، علاقة تلك الرواية بالأفكار التي لا استطيع اليوم ان استعيدها، لانها نتاج فترتها. فهي تعتقد ان الكاتب ينبغي أن لا يضع أمامه تصورات جاهزة ثم يخلق منها مواضيع وشخصيات، بل ان المواضيع والشخصيات الروائية تمثل مخاض أفكار العصر. انها تنظر الى معاناة النساء في الرواية على انها تضمر فكرة الاغتراب بما له من دلالة بالمفهوم الماركسي. ولطالما أبدت اعجابها بكتاب القرن التاسع الذين عكسوا روح عصرهم، وهي تقول من خلال روايات تولستوي او ديستوفسكي يمكن ان نلتقط تلك الافكار والتصورات والرؤى لروسيا القيصرية، ومن خلال ستاندال يمكن التقاط روح فرنسا وميولها، في حين غدت رواية القرن العشرين لا تتمتع بهذه المزايا. ألهمتها رواية "الشياطي" لديستوفسكي، بل اسعدتها رغم ما حفلت به من سوداوية، لانها تدور عن شخصيات المثقفين وافكارهم ومعاركهم في روسيا القرن التاسع عشر. ومن كل هذا تنظر إلى عملها هذا وإلى كل أعمالها على انها محاولة لتفهّم ما يأتي به الحاضر والمستقبل من رؤى وصراعات. الكثير من القراء فهموا روايتها "المفكرة الذهبية" على انها تمثل صورة النساء الغاضبات المتذمرات في الخمسينيات، حتى انها توحي بتلك الفحولة المضادة التي يضمرها صوت المرأة ، تلك القوة المدمرة التي تريد من خلالها الدفاع عن نفسها. سُلط الضوء على هذه الرواية بعد ان تبنتها الحركات النسائية التي انبثقت في عقد الستينيات وجعلتها من بين مناهجها القرائية، ثم جرى مديحها او ذمها في الصحافة وفق هذا الاعتبار. ليسنغ تقول انها لم تحاول مرة ان تكون داعية نسائية لا في هذه الرواية ولا في غيرها، ولم تكن معنية بتحرير المرأة، رغم ان هذا مطلب تحترمه، بل هي استشرفت أفق التململ، اي انها استبقت ما كان مضمرا في تلك النزاعات والرؤى. هي تقول ان الشخصية الرئيسية في "حكاية امرأتين عن الحرية" لم تكن وحدها تحت الضوء، بل أرادت ان تصور ذلك الالتحام بين شخصية المرأة والرجل لان صراع الإرادات دائما هو الذي يشتغل في ذلك الحيز الذي يربط الاثنين. كل ما تحفل به الرواية من تلك الاحاديث الغاضبة والثرثرات النسائية وما يحف بهن من رغبات خفية، ما هي إلا ما التقطته وهي تقف على مسافة من الاحداث دون ان تجزم برأي. كانت خمسينيات القرن العشرين عصر الماركسيين والاشتراكيين، فقد خاضوا الحوارات العظيمة، وعلى هذا الاعتبار رصدت في روايتها ،كما تقول، نماذجهم، في الصعود والانحدار. لعل من يقرأ بعض أعمال دوريس ليسنغ، يدرك ان الحوار الانساني يشغلها، فهي شغوفة بتشكل الرأي في ذلك الفائض من الأحاديث والعلاقات التي تبدو بعضها وكأنها غير ذات جدوى، او انها لعبة تمرن الكاتبة عقلها عليها كي تملأ الصفحات، فقد زادت أعمالها على الخمسين عملا، بين رواية ومجموعات قصصية وشعر ومسرح، فهي تكتب بغير انقطاع. ولكن هذه الوفرة لم تمتص وهج قلمها والتماعات ذهنها في السرد، وذلك الحنان الخفي الذي تصور فيه الكثير من شخصياتها وخاصة النسائية. ومع انها تركت خلفها طفلين من زواجها الاول، لترحل مع طفلها الثالث بعد طلاقها من زوجها الثاني، غير ان فكرة الامومة تشغلها، مثلما تشغلها شخصية المرأة المرتبكة والمحاصرة بمخاوفها وأهوائها ورغباتها. هي حقا مثلما قالت عنها الاكاديمية السويدية صورّت على نحو ملحمي مشاعر المرأة وأعماقها المضطربة. ليسنغ المولودة في كرمنشاه 1919 من أب وأمّ بريطانيين، والمهاجرة إلى غير مكان، والمولعة بالسفر حتى بعد ان تجاوزت التسعين، كانت تخوض تجاربها بجماع عقلها مشهرة قلمها منقبة بين القراءة والكتابة عن حيوات تعيش من أجلها، فهي تقول انها اكتشفت ان السرد الروائي التخييلي هو أكثر صدقا من الواقع. كتبت روايتها الاولى "العشب يغني" 1942 مستلهمة تجربتها في روديسيا الجنوبية، حيث رحلت عائلتها بعد ان تقاعد والدها العسكري الذي احتفظ بذكريات الحرب، فحاول ان يكون مزارعا يستخدم السود كعمال أجراء. غير انها في ذلك الوقت المبكر وقد بلغت العشرين او كادت انتمت الى اليسار، وحلقة الشيوعيين الذين ولعوا بالقراءة. تتطرق الرواية الى العلاقة بين زوجة السيد الابيض وخادمها الاسود، كما تستلهم تجربة الحياة مع السود سكان الأرض الأصلين في أعمال أخرى وفي قصصها القصيرة. مجموعتها "شتاء في ايلول" تصور تلك الخطوط الرفيعة التي تحكم علاقة المستوطنين الأوروبيين بعمالهم من اهل البلد في ترميزات تجمع البساطة إلى العمق. وكما في الكثير من اعمالها تستخدم خبرتها في الحياة والقراءات وتجارب السفر، في مقاربة الشخصيات سايكولوجيا وسوسيولوجيا ومن زوايا متغايرة. لعل خلفية ليسنغ اليسارية ونزعتها الانسانية تكمن وراء ذلك التفهّم او التفاهم مع الآخر المختلف، ورغم خروجها من الحزب الشيوعي مبكرا والانتقادات اللاذعة التي وجهتها إلى من اعتبرتهم يجيدون النفاق من رفاقها القدامى، غير انها ظلت تؤمن بأن الماركسية هي اول محاولة يشهدها العصر الراهن، فيما عدا الديانات الرسمية، لخلق وعي عالمي وأخلاق عالمية، ولكنها اي الماركسية لم تسر في الطريق الصحيح، بل تلوثت وفقدت بريقها. كما تقول. ومع ان ليسنغ تؤمن بالعلم غير انها انشغلت في بعض كتابتها بفكرة الروح، او الماورائيات، وسواء كتبت عن التصوف او روايات الخيال العلمي، فأن هناك ما يشبه الايمان والإنكار يتخلل بعض ما يتسرب من أقوال وأفعال شخصياتها وخاصة النسائية. الإيمان بأن هناك علاقة ما تربط الكائنات بأمور خارج هذا العالم، ربما باشخاص يأتون من الفضاء. فكرة الإرادة والقدر برزت لديها في عدد من قصصها وخاصة روايتها "الطفل الخامس" فهناك حنين ما الى الحياة الوحشية يكمن عند من يتوقون الى السوية ويتخطون عصرهم بما تأتي به الوحدة والاندماج من تناقضات كتبت ليسنغ مرة عن علاقتها المختلة مع النقد، فهي لا تؤمن بما يحاوله النقاد من قراءات تقوم على مناهج جاهزة، مؤكدة ان تلك الاعمال جديرة بالمعاينة من منطلقات تتعلق بما تمنح من أفكار واستشرافات جديدة. كانت ليسنغ حاضرة دائما بعقل وفكر طازج، حتى وهي تتوقع موتا جليديا يلف العالم في المستقبل كما رسمت في عمل لها، فالتفاؤل والتشاؤم لا يسمان فكرها الذي بقي يبحث خلفهما عن ما هو متغير وديناميكي في الشخصية الانسانية.