ما زالت العولمة الموضوع الأشد سخونة واغراء للمناقشة وتبادل الرأي عربياً وعالمياً. وانعكس هذا الامر في الندوة التي عقدت في بيروت بمبادرة من "مركز دراسات الوحدة العربية" للبحث في هذه الظاهرة الخطيرة وتداعياتها على الاقطار العربية. وشارك فيها عدد كبير من المثقفين العرب من تيارات ومدارس فكرية متنوعة. ومع ان تلاقيا عاماً قد أسفرت عنه المناقشات حول اهمية العمل العربي المشترك لمواجهة الاخطار الناجمة عن العولمة والاشارة الى عدد من التدابير، الا ان الخلاف او التباين في فهم هذه الظاهرة وتحديد معالمها وجذورها وآثارها كان مهيمناً على جو المناقشة. ولعل اهم ما يستدعي الانتباه والقلق هو منحى التفكير الذي ينزع الى تجريد ظاهرة العولمة من سياقها التاريخي والموضوعي وتصويرها على انها امتداد للسياسة الامبريالية او انها نتاج مؤامرة خارجية على شعوب البلدان النامية. ويتسلّح اصحاب هذا الرأي بكل ما حوته الادبيات الايديولوجية والسياسية التقليدية عن الاستغلال الرأسمالي والغزو الكولونيالي عبر التاريخ. وهو منطلق، من الناحية المنهجية، آحادي الجانب ونابع من اعتبارات ذاتية وانعزالية ولا ينسجم مع حقائق العصر ومنطق التطور الواقعي في العالم. فالعولمة والتكنولوجيا ظاهرتان مترابطتان لا فكاك بينهما. ولا يمكن فهم العولمة بصورة سليمة من غير ان نتلمّس الاثر الاهم والاكثر جوهرية للتقدم العلمي والتكنولوجي في خلق هذه الظاهرة بكل ما تحمله من ثورات وقفزات في تطور القوى المنتجة والقدرات الانسانية التي اتاحت وتتيح حركة ميسورة للبشر ورؤوس الاموال والخدمات والسلع ومجمل ثمار العلم والتكنولوجيا عبر الحدود الوطنية وضمن شبكة كونية معقّدة من الاتصالات والترابطات. وهنا يصبح التعايش مع هذه الظاهرة الجبّارة وتوجيه آلياتها ووسائلها لخدمة الانسان والتقدم الاجتماعي وازالة التفاوت والظلم بين الشعوب، أمراً لا مناص منه، ويشكّل المدخل الموضوعي السليم لبرنامج عمل حقيقي وفعّال للحدّ من الاخطار والاضرار الناجمة عن استخدام الشركات الرأسمالية الكبرى لوسائل العولمة من ناحية والافادة من الفرص والفوائد التي توفرها هذه العملية الكونية المتنامية من ناحية ثانية. اما "الرفض" او "التنديد" بالعولمة فلن يلغيا ولن يجديا نفعاً في مواجهة او تقليل آثارها السلبية، لا سيما تهميش البلدان النامية ومنها الدول العربية في مسار التطور العالمي. ولعل هذا الموقف الرفض والتنديد الأحادي والتجزيئي Partial قد تولد من وحي المرارات والمعاناة التي تقاسيها الشعوب من سياسات وممارسات الشركات متعدية الجنسية TNCs واستغلالها لثروات وموارد البلدان النامية وفرض سياسات تجارية غير متكافئة، مما اوجد تحليلات ايديولوجية قاصرة تخلط بين الجانب التاريخي والموضوعي المتطور لعملية العولمة وبين سياسات وممارسات الشركات متعدية الجنسية. ان الاقرار بكون العولمة ظاهرة موضوعية قابلة للبقاء والتطور يطرح عدم حتمية ارتباطها دوماً بنظام اقتصادي وسياسي معين كالنظام الرأسمالي مثلاً. بل يمكن ان تكون العولمة آلية من آليات نظام دولي جديد بمضامين واهداف مختلفة تماماً. ويترتّب على ذلك تحديد وسائل الافادة منها ومن آلياتها لخدمة اهداف انسانية اكثر تقدماً وعدلاً وازالة فرص وعواقب تسخيرها لتهميش البلدان النامية ولتعميق التفاوت الاقتصادي بينها وبين البلدان الصناعية المتقدمة. وهنا يجدر ان نستذكر من التاريخ. ففي بداية الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، قام العمال بالتمرّد على استخدام الآلة وتحطيمها باعتبارها قد تسبّبت بتسريح العمال عن العمل وتوسيع البطالة. وكان هذا الموقف موضع نقد معروف من جانب المفكرين الاجتماعيين والاشتراكيين آنذاك لانه اخطأ في تحديد سبب البطالة المتمثلة بطبيعة علاقات الانتاج وأخفق في فهم القيمة التاريخية لاختراع الآلة كأداة مهمة لتطوير القوى المنتجة. واليوم تأتي العولمة بقدرات وامكانات هائلة في ميادين تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وانماط الانتاج والتخصص وتقسيم العمل والميزات النسبية وغيرها وتشرع بتغيير وجه الكوكب، بل الكون، بمقاييس مدهشة من حيث القوة والسرعة. الا انها أدت من ناحية اخرى الى تعميق التفاوت الاقتصادي والثقافي في العالم وأفرزت ظاهرة "تهميش" البلدان النامية. وهذا التهميش يعود الى سياسات وممارسات الشركات متعدية الجنسية الامر الذي يدعو الى التركيز على نقدها ورفضها واستبدالها بإدارة ديموقراطية عادلة للاقتصاد الدولي واقامة علاقات متكافئة بين الدول. وهنا يتجلى المغزى التاريخي الهامّ لهذه المقارنة. فبالأمس كان الخطأ يكمن في محاربة الآلة وتحطيمها لأنها "سبب البطالة" واليوم يقوم الخطأ في محاربة العولمة ورفضها لأنها أدت الى "تهميش البلدان النامية". وفي خضم هذا الخلط والتصورات الذاتية الضيقة انحرف الكفاح والعمل المطلوبان عن هدفهما الحقيقي والأساسي سواء بالنسبة لعلاقات العمل ورأس المال في القرن الثامن عشر أو بالنسبة لهيمنة الشركات المتعدية الجنسية في المرحلة الراهنة. واللافت أيضاً ان وجهة العمل في ظل العولمة وآثارها كانت هي الأخرى موضع تباين بين المثقفين العرب. وقد يكون الأمر طبيعياً نتيجة للاختلاف في فهم الظاهرة وسياقها العام، فتجد أن أصحاب "الرفض" و"التنديد" يركّزون على أسباب خارجية منها "المؤامرة" ويقترحون معالجات مكررة لا ترقى من حيث الفاعلية والواقعية إلى مستوى التحديات والمهمات الكبرى التي تواجه العرب في هذا المنعطف التاريخي الكبير. لا شك ان العديد من معضلات ومتاعب العالم العربي يعود إلى الاطماع الأجنبية والصراع بين القوى الكبرى على الثروات والموارد الطبيعية الكامنة فيه. إلا أن استمرار الضعف والتخلف والاعتماد على الخارج التبعية يكمن أساساً في وجود خلل داخلي في بنية وسياسات الأنظمة العربية. هذا الواقع المرير الذي كان وما زال مصدراً للكثير من المتاعب والانتكاسات، يؤلف قاعدة قوية لانكشاف Exposedness وهشاشة الاقتصادات العربية أمام التحديات الخارجية المتزايدة ولا سيما تحرير التجارة الدولية وأسواق المال والاستثمار وتعاظم الابتكارات العلمية والتكنولوجية. إن "التصدي" لاخطار العولمة، لا يتأتى من التنديد بها واعتبارها خطراً خارجياً داهماً، بل بالبحث في أسباب الضعف العربي الداخلي ومعالجته جدياً للنهوض بالقدرات والواقع العربي إلى مستوى التطورات الجديدة والتعامل معها على أساس من التكافؤ والاقتدار في الميادين المختلفة. وينبع من هذا الرأي التأكيد على ثلاثة عناوين رئيسية في أي برنامج عمل عربي: هي حماية الأمن العربي، والسعي للتكامل الاقتصادي وتحقيق تنمية مستدامة Sustainable على اعتبار ان هذه الغايات توفر أساساً قوياً للتعامل الناجح والفعّال مع المتغيرات الدولية ومن شأنها أن تصون مصالح الشعوب العربية. إلا أن الكلام في هذه الأمور يبدو مثالياً وغير قابل للتطبيق، كما علمت التجربة السابقة والراهنة. فالكثير من الاتفاقات والمشاريع العربية المشتركة المبرمة سابقاً لم تر نور الحياة بسبب غياب الإرادة السياسية. وهنا يصبح الحديث عن معالجة مشاكل النظام السياسي وضرورة اصلاحه في الأقطار العربية الحديث الأهم والأصدق في هذه المرحلة الحساسة. فلو توفرت أنظمة حكم قائمة على مؤسسات تمثيلية وديموقراطية حقة، لكان الالتزام بالاتفاقات والمشاريع المشتركة أكثر جدية وأهلية للتنفيذ ولكانت الإرادة السياسية المغيبة متاحة وفعالة. فتحقيق اصلاحات ديموقراطية في العالم العربي هو المهمة الأولى في أي برنامج حقيقي لتحقيق نهضة عربية شاملة تتماشى مع روح العصر ومتطلباته وتقوم على قوائم أساسية: حكم القانون والمؤسسات واحترام حقوق الانسان والتعددية. وإلى ذلك هنالك بُعد مهم للبرنامج العربي المنشود في مواجهة تحديات العولمة، وهو البعد العالمي الذي يغيب عن أجندة الحوار العربي. وأعني به النهوض بمسؤولياتنا، إلى جانب الشعوب الأخرى، في التعامل الايجابي مع هذه الظاهرة، على نحو يصون المصالح المشتركة للشعوب ودرء المخاطر التي تواجهها. ولعل أبرز ما يرد في هذا الصدد هو إقامة نظام إدارة حكم للعالم Global Governance وليس حكومة من شأنه أن يؤمن إدارة سليمة ونزيهة للشؤون العالمية. أو بكلمة أخرى إقامة نظام دولي عادل ومتكافئ. وهذا النظام - الإدارة - يستهدف الإحلال محل الشركات متعدية الجنسية وبعض القوى الكبرى المتنفذة في إدارة العولمة، واستخدام آلياتها ووسائلها لصالح الشعوب وتنوعها الثقافي والعرقي. إن أهم أسس هذه الإدارة تقوم على: توفير وسائل فعالة من أجل بقاء البشرية. احترام وحماية التنوع Diversity على أشكاله الذي تتميز به الإنسانية. خلق البيئة الملائمة للتعايش البناء والسلمي بين الشعوب. ضمان حكم القانون دولياً وفي كل مكان. اجراء اصلاحات مؤسسية للهيئات الدولية. هناك مسؤولية مشتركة لشعوب العالم لمواجهة الأخطار الطبيعية كتلوث البيئة والأمراض، واجتماعية - اقتصادية كالفقر والجوع والظلم وعدم التكافؤ. ولا شك ان اداء هذه المهمة يتطلب مستوى عالياً من التعاون بين جهات عدة منها الحكومات والمنظمات غير الحكومية والشركات المتعدية الجنسية، وذلك بهدف تحقيق حياة ديموقراطية وآمنة ومستدامة Sustainable لشعوب العالم وللأجيال القادمة. أي اننا بحاجة إلى أممية إنسانية جديدة ذات برنامج عمل مشترك وشامل.