تكاد رواية حيدر حيدر الجديدة "شموس الغجر" عن دار "ورد" في دمشق أن تكون رواية مناخ نفسي... أجواء اجتماعية تنز من مسام الروح، أكثر منها رواية أحداث حكائية على رغم احتشادها بالأحداث، الشخصية والعامة، وحرصها على "الحبكة" الروائية التي تشد القارئ وتدفعه لمتابعة القراءة. انها رواية تستعيد ذكريات بطلتها من خلال شاشة الروح المشبعة بحنين رومانسي يطلق العنان لذاكرته كي تعيد سرد المشاهد في شبه نشيد حزين، يرثي زماننا الراهن بفواجعه وانهداماته، وبكل ما فيه من أسود يثقل الروح ويلوث الشرايين. حيدر حيدر في "شموس الغجر"، يقترب من تجربته السابقة في "مرايا النار"، حيث الوقوف الطويل أمام مرآة الانكسارات ومحاولة استنطاق شروخها وتشوهاتها في تقنية كتابة بطيئة، بل حلزونية، تشبه إلى حد بعيد، إيقاعية المجتمع العربي البطيئة والحلزونية هي الأخرى، حيث جدل الواقع مع شغف التأمل، يمكن له وحده أن يستنبط الايقاع الملائم، والمتناغم، حيث الكتابة موسيقى تتكسر في هواء ثقيل لا يشبه الهواء أبداً. تقوم "شموس الغجر" على حكاية امرأة تعصف بها رغبة لا تحد في التمرد على محيط يغرق في رتابة العادات وكسل الخنوع للأفكار المتخلفة. والد يربي أبناءه على أفكار التحرر والانطلاق لسنوات طويلة، لكنه فجأة يرتد عن هذه الأفكار ويسلم قياده للأفكار القديمة المتخلفة، لتبدأ تراجيديا أسرته حين سيعمد الى جرهم جميعاً نحو أفكاره "الجديدة"، أفكار الارتداد واجبارهم على نبذ كل ما تعلموه على يديه، بما في ذلك، نوع الكتب التي يمكن لهم قراءتها، وهي حياة تتحول مع الأيام الى كابوس ثقيل بفعل التوقف القسري للزمن وبفعل عامل جديد صاعد يتمثل في شراسة تسلط الابن الأكبر الذي يرث سلطة الأب، ويحاول بالقوة البدنية فرض سلطته الخاصة المدججة بخيلاء لا تعترف للآخرين بأية استقلالية تتجاوز حدود مفاهيمه وممنوعاته. هنا يبرز الكاتب العلاقة بين بطلته المتمردة وصديقها في الدراسة الجامعية ماجد زهوان، الفلسطيني الذي يعيش في جزيرة قبرص، والذي يحمل أفكاراً طليقة تبحث عن تأكيد الهوية على المستويين الوطني والشخصي، وكأن اجتماع الطرفين اشارة غير مباشرة الى ضياع البطلة نفسها بسبب من الاغتراب الروحي والثقافي الذي تعيشه بين أهلها، فتذهب إليه في نيقوسيا يعيشان حياة حرة تنتهي باستشهاد ماجد زهوان في عملية تفجير انتحارية تستهدف السفارة الاسرائيلية. سياق رواية حيدر حيدر "شموس الغجر" يظل منسجماً ومتماسكاً حتى الصفحات الأخيرة، حين ينهي حياة بطله بتلك النهاية التي بدت دخيلة على العمل بأجوائه وثقافات أبطاله الرئيسيين، خصوصاً ماجد زهوان الذي يقدمه لنا الكاتب في ملامح زوروباوية تنسجم أيضاً مع الروح المتمردة للبطلة التي حملت هي الأخرى منذ طفولتها روح الحياة البرية، خصوصاً ان ولادتها جاءت في الحقل، وأن غجرية قامت بقطع حبلها السري، في اشارة رمزية الى حرية الغجر وطلاقتهم اللامحدودة. هذه الولادة أتاحت بمعناها الرمزي الانطلاق نحو رواية "برية"، تشتعل في أحداثها عواطف الى مدياتها القصوى، وتتحدد التخوم بين الأبيض والاسود فيها بدقة جارحة الوضوح الى ذلك الحد الذي نرى فيه الأبطال يميلون لأن يكونوا أبطال البداهات الفطرية والقيم الانسانية ذات الصلة الوثيقة بالطبيعة الأولى، وكأنهم في حلهم وترحالهم، وفي تنقلهم المحفوف بالأهوال والمفاجآت بين الثقافات والسياسات المختلفة، انما يعبرون صراطاً من جحيم وأفخاخ، يستعينون عليها بصفاء السريرة وجموح الروح نحو حب خالد لا توقفه العثرات ولا تحطمه النوازل. انها بنائية روائية تمتح من حرية بفضاء مفتوح على الطبيعة وعلى الحلم معاً، وهي من هنا بدت غريبة وغير منسجمة مع الخاتمة الميلودرامية لبطل فيه من العبث ما يدفعه الى المغامرة، ولكن، فيه أيضاً عصارة تجربة العربي الباحث عن خلاصه بوعي مقتدر ودراية ذات عزم لا تنسجمان مع تلك المسحة العبثية لمغامرة الموت في عملية تفجير كاريكاتورية أو هي شابهت الكاريكاتور إذا ما نُظر اليها في السياق الحدثي العام للرواية ومسارها. يمكن في "شموس الغجر" تلمّس روح الخطاب الايديولوجي مسفوحاً في ثنايا الحوارات مرة، وفي ثنايا الهواجس والمونولوغات الداخلية، التي تكاد أن تكون وقفاً على هجاء الواقع العربي وانغماساً في تفصيل نقيضه القادم من حلم ثقافي، وهو خطاب نجد مفرداته منصبة على محاولة تقديم صورة هذا الواقع كما تتبدى من ذاكرة مثقف قلق، يبحث عن تأكيد وجوده فيما هو يبحث عن تأكيد وجود شعبه ووطنه. أهم ما في رواية حيدر حيدر الجديدة لغتها التي لا تبدو مفاجئة لمن يتابع أعمال حيدر الروائية كلها، والتي تأخذ اللغة فيها مكانة مرموقة، وتقترب الى حد كبير من اجواء الشعر، يخدمها في "شموس الغجر" أنها تحكي استعادات ومناخات نفسية تمنحها حميمية خاصة. والرواية نشيد طويل، حزين، ومفعهم بخيبة جيل عربي، يطلع من الهزائم فلا يقوى على فتح عينية في نور الشمس.